"مع أبي العلاء في سجنه" لطه حسين
الكتاب وأهميته
السياق التأليفي: ألّف طه حسين الكتاب عام 1935 كجزء من سلسلة مؤلفاته عن أبي العلاء المعري (بعد "تجديد ذكرى أبي العلاء" و"صوت أبي العلاء")، ليقدم قراءة وجدانية ونقدية لحياة الشاعر وفلسفته، مع التركيز على التشابه بينهما في فقد البصر والتجارب الوجودية .
المنهجية: ليس سيرة تقليدية، بل حوارٌ افتراضي مع المعري، يجمع بين التحليل النفسي والانحياز العاطفي، حيث يعامله طه حسين كـ"صديق وفّي" لا يُجهر بأسراره .
السجون الثلاثة لأبي العلاء: الإطار الرئيسي للكتاب
يُحلّل طه حسين حياة المعري من خلال مفهوم "السجون" التي ذكرها الشاعر في بيتيه الشهيرين:
"أراني في الثلاثة من سجوني
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكوْنِ النفس في الجسم الخبيثِ" .
سجن العمى:
فقد المعري بصره في الرابعة من عمره، ما شكل عائقًا جسديًّا ونفسيًّا جعله يشعر بالعزلة مُبكرًا .
يُقارن طه حسين بين تجربته الشخصية (فقد البصر في الطفولة) وتجربة المعري، مُبرزًا كيف حوّلهما هذا الحرمان إلى قوة في الإدراك والتأمل .
سجن العزلة الذاتية:
بعد عودة المعري من بغداد، فرض على نفسه عزلةً في بيته بمعرّة النعمان لنصف قرن، وطلب من أهلها ألا يزوروه.
قنّن حياته بقسوة: امتنع عن الزواج، وأكل الحيوان، وارتداء الملابس الناعمة، والنوم على الفراش المريح .
يرى طه حسين أن هذه العزلة لم تكن هروبًا، بل محاولة لتحرير العقل من مشاغل العالم المادي .
سجن الجسد والفلسفة:
السجن الفلسفي يتمثل في صراع المعري مع أسئلة الوجود: حيرة بين الإيمان والشك، والمساءلة حول حرية الإرادة ومصير النفس.
يُبرز طه حسين تناقضات المعري: إيمانه بالله مع شكّه في الحكمة الإلهية، وتشاؤمه من الحياة البشرية رغم إيمانه بالعدالة الاجتماعية .
اللزوميات: الشعر كسلاح ضد الفراغ
الابتكار الفني: ديوان "اللزوميات" (أشهر أعمال المعري) يُظهر براعته في "لزوم ما لا يلزم" – أي التزام قيود شعرية صارمة كالقافية المزدوجة واستخدام كل حروف المعجم بحركاتها .
الدافع النفسي: يفسر طه حسين هذا التعقيد كوسيلة لملء فراغ الوقت الطويل في العزلة، وإثبات سيطرة المعري على اللغة: "لَيعبث بها أثناء الجد" .
النقد الفني: رغم إعجابه، يوجه طه حسين انتقادًا للمعري؛ إذ رأى أن التزام الصعوبة الفنية أضعف الجودة الشعرية أحيانًا .
المعري بين الشك والاشتراكية: تحليل طه حسين
الجدل الديني: يدافع طه حسين عن المعري ضد اتهامات الإلحاد، مُظهرًا تناقضاته كجزء من بحثه الفلسفي. ويستشهد بتحول المعري في شيخوخته إلى نزعة دينية، كما في قصيدته:
"وَصُم رَمَضانَ مُختاراً مُطيعاً
إذِ الأَقدامُ مِن قَيظٍ رَمِضْنَه" .الرؤية الاشتراكية: يكشف طه حسين عن بعدٍ اجتماعي في فكر المعري، خاصة في بيتيه:
"غِنى زيدٍ يكونُ لِفقرِ عَمرٍو
وأحكامُ الحوادثِ لا تُقسَنَه"
لكنه يوضح أن اشتراكيته فلسفية (زهدٌ وإعادة توزيع اختياري للثروة)، لا سياسية كماركس .
التشابه بين طه حسين والمعري: جوهر الكتاب
المصير المشترك: يشدد طه حسين على تقاطعهما في:
فقد البصر مبكرًا.
العيش 84 عامًا.
التمرد على التقليد (المعري في الفلسفة، وطه حسين في تحديث التعليم) .
الحوار الوجداني: يُصوّر الكتاب كـ"زيارة" لسجن المعري، حيث يُحاوره طه حسين كأنه حي، متأملًا: "تصوَّرتُ أن أبا العلاء لاقاني بعد الموت فاعرض عني وأنا أعتذر" .
تقييم الكتاب وأبرز الانتقادات
الإسهام الفريد: يُعد العمل نموذجًا للتحليل النفسي الأدبي، يكسر الصورة النمطية عن المعري كزنديق، ويقدمه كـ"عبقري معذب" .
الانتقادات:
افتقار الكتاب لأمثلة كافية من شعر المعري .
هيمنة آراء طه حسين دون إتاحة مساحة للقارئ ليحكم بنفسه .
إرث الكتاب
يظل "مع أبي العلاء في سجنه" شهادة على لقاء فكري بين عظيمين، تجاوزا فيه قيود الزمن والجسد. كما يقول طه حسين: "هو مشاركة وجدانية لإنسان تشابهت ظروفه مع إنسان من عصر آخر" . الكتاب متاح مجانًا عبر "مؤسسة هنداوي" ، وهو مرجع أساسي لفهم عبقرية المعري وإنسانيتها
أقرأ أيضاَ
0 تعليقات