الرجل الخفي لهربرت جورج ويلز

"الرجل الخفي" لهربرت جورج ويلز

العمل ومؤلفه

رواية "الرجل الخفي" (بالإنجليزية: The Invisible Man) للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز (1866-1946)، نُشرت لأول مرة كمسلسل في جريدة بيرسون الأسبوعية عام 1897، ثم كرواية كاملة في العام نفسه .

تُعد هذه الرواية من الأعمال التأسيسية في أدب الخيال العلمي، حيث سبقتها في شهرة فقط روايتا ويلز الأُخريان: آلة الزمن (1895) وجزيرة الدكتور مورو (1896) .

تميز ويلز عن معاصريه مثل جول فيرن بدمج النقد الاجتماعي في نسيج الرواية العلمية، مما جعل أعماله تحمل أبعادًا فلسفية عميقة تتجاوز المغامرة المجردة .

تدور الرواية حول ثيمة مركزية: ماذا يحدث عندما يتحرر الإنسان من صورته المرئية؟ وكيف يمكن أن تتحول نعمة الاختفاء إلى نقمة وجودية؟ .

الشخصيات الرئيسية وتفاصيل الحبكة

غريفين (الرجل الخفي): عالم فيزيائي متخصص في البصريات، ذو شخصية انطوائية ومضطربة. قادته أبحاثه إلى اكتشاف مروع حول كيفية جعل الكائنات الحية غير مرئية، لكن تجربته على نفسه تنقلب إلى كابوس عندما يعجز عن عكس التأثير .
السيد والسيدة هول: زوجان يديران نزلًا في قرية إيبينغ الريفية في ساسكس بإنجلترا، حيث يستأجر غريفين غرفةً في بداية الرواية. فضولهما وحيرتهما تجاه الضيف الغامض يشكلان المحرك الأول للأحداث .
توماس مارفيل: متشرد يُجبره غريفين على أن يكون مساعده، حاملاً له كتبه وأدواته. يتحول مارفيل لاحقًا إلى مصدر معلومات للسلطات عن الرجل الخفي .
دكتور كيمب: زميل دراسة سابق لغريفين، يُعتبر الشخصية العقلانية في الرواية. يحاول كيمب تحييد غريفين بعد أن يكتشف خططه الإجرامية، لكنه يصبح هدفًا رئيسيًا له .

البنية السردية: ثلاث مراحل للانهيار

المرحلة الأولى: الغموض في إيبينغ
تبدأ الرواية في يوم شتوي بارد مع وصول رجل غامض إلى نزل "السيادة والتنين" في إيبينغ.
يلف نفسه بضمادات كتيمة تخفي وجهه، ويرتدي نظارات داكنة، ويرفض التفاعل مع السكان.
تصرفاته الغريبة – مثل طلبه مواد كيميائية ومعدات معملية – تثير شكوك السيدة هول .
تتصاعد الأحداث عندما يرفض دفع الإيجار، وفي مشهد درامي تكشف السيدة هول أن غرفته "فارغة" بينما تتحرك الملابس وتهاجمها قوة خفية! يكتشف أهل القرية أن الضيف قادر على الاختفاء، مما يؤدي إلى موجة من الذعر الجماعي ومحاولات مطاردته .
المرحلة الثانية: كشف السر والتحول إلى الشر
أثناء هروبه من القرية، يلتقي غريفين بالمتشرد مارفيل ويجبره على مساعدته. هنا يُكشف عن الاسم الحقيقي للرجل الخفي: غريفين. في منتصف الرواية، يروي غريفين قصته لكيمب:
- كان عالمًا فقيرًا مهووسًا بـالبصريات وتغيير معامل انكسار الضوء في الأجسام.
- نجح في جعل قطعة قماش غير مرئية، ثم جرب التجربة على قط، لكنه فشل في إخفاء عينيها.
- قرر تطبيق التجربة على نفسه، متجاهلًا المخاطر الأخلاقية. بعد حقن نفسه بمواد كيميائية معقدة، أصبح غير مرئي، لكنه اكتشف لاحقًا استحالة العودة إلى حالته الطبيعية .
  يتحول غريفين من ضحية لتجربته إلى مجرم متسلط، مُعلنًا عن خطة "عهد الإرهاب": سرقة البنوك، والقتل، وإشاعة الخوف في لندن.
  يُبرر أفعاله بأن الاختفاء منحه "القوة المطلقة" التي تتيح له تحدي القوانين .
المرحلة الثالثة: الصيد والموت
يرفض كيمب خطة غريفين ويتصل بالشرطة. يشن غريفين هجومًا انتقاميًا، لكن كيمب يهرب إلى بلدة بورت بوردوك.
تنتهي الرواية بمشهد درامي حيث يُحاصر غريفين من قبل حشد غاضب، ويُضرب حتى الموت بعصي وعصيان. عند موته، يعود جسده ليصبح مرئيًا مجددًا، مُظهرًا رجلاً أشقر شاحبًا بعيون حمراء – دليل على الآثار الجسدية للاختفاء .

جدول: تطور مسار غريفين من العالم إلى المجرم

المرحلة	الحدث المحوري	الدافع/التحول النفسي
العالم المجتهد	تجارب على البصريات والضوء	البحث العلمي المجرد، الطموح المعرفي
الضحية اليائسة	فشل عكس الاختفاء	الإحباط، العزلة، اليأس المادي
المجرم المتسلط	إعلان "عهد الإرهاب"	الإحساس بالقوة المطلقة، الانتقام
المطارد المنهزم	الموت على يد الحشد	السقوط الأخلاقي والجسدي النهائي

التحليل الأدبي والفلسفي

العلم دون ضمير: خراب الأخلاق

تقدم الرواية تحذيرًا مبكرًا من انفصال العلم عن الأخلاق.

غريفين يمثل نموذج العالم الذي يختزل الكون إلى معادلات فيزيائية، مُهملًا البعد الإنساني.

تجربته على القط (التي كادت تودي بحياته) تُظهر تجاهله للمعاناة غير البشرية، بينما تجربته على نفسه تعكس الغرور المعرفي الذي يجعله ضحية اختراعه .

الناقد الأدبي إيفجيني (في مراجعته على Goodreads) يلاحظ أن ويلز يشير إلى أن الاختفاء الجسدي هو استعارة لـالاختفاء الأخلاقي؛ فعندما يتحرر الإنسان من المراقبة المجتمعية، قد يتحرر من ضميره أيضًا .

العزلة واللامرئية: سجن بلا جدران

يُصوّر غريفين الاختفاء في البداية كـ"قوة عظيمة"، لكنه يكتشف لاحقًا أنه سجن وجودي:

لا يستطيع الأكل دون أن يظهر الطعام مُعلقًا في الهواء.
لا يستطيع المشي تحت المطر أو الثلج دون أن تُكشف معالم جسده.
في الطقس البارد، يصبح "مشيًا منتنًا من الطين" بسبب الأوساخ العالقة بجسمه غير المرئي .
هذه التفاصيل تُظهر أن الاختفاء لم يمنحه حرية، بل جعله عبدًا للظروف. قول غريفين الشهير: "كنت أتمنى أن أُرى" يُلخص مأساة فقدان الهوية في عالم لا يعترف بوجوده إلا عندما يرتكب الشر .

تقنيات سردية: من الغموض إلى الكشف

يُبدع ويلز في بناء التشويق عبر تغيير منظور السرد:

الفصول الأولى: تُروى بضمير الغائب، مركزة على رؤية أهل القرية للغريب، مما يخلق جوًا من الغموض والرعب اليومي.
منتصف الرواية: ينتقل السرد إلى حكاية داخل حكاية، حيث يروي غريفين بنفسه تفاصيل اكتشافه، مما يمنح القارئ نظرة حميمية على دوافعه المظلمة.
النهاية: تعود إلى السرد الموضوعي لتصوير هزيمة غريفين كحدث جماعي .
هذا التعدد في الزوايا يجعل الرعب غير المرئي ملموسًا عبر ردود أفعال المجتمع.

الإرث الثقافي والتأثير

تأسيس تيار الخيال العلمي النقدي: أثّرت رواية "الرجل الخفي" في أجيال من الكُتاب، من ألدوس هكسلي (عالم جديد شجاع) إلى فيليب ك. ديك.
هي أول رواية تطرح فكرة "العلم كأداة للشر" بطريقة منهجية، بعكس أعمال جول فيرن التي كانت تمجد التقدم التقني .
التجسيد السينمائي والمسرحي: أُنتجت أول نسخة سينمائية عام 1933، ثم توالت الإبداعات مثل مسلسل "الرجل الخفي" (1984) وفيلم "هولو" (2020) الذي حوّل غريفين إلى ضحية للعنصرية .
الرمزية في الفلسفة: يشير النقاد إلى أن الرواية تتنبأ بمفاهيم مثل انعدام الرقابة في العالم الرقمي، حيث يُصبح الفرد "خفيًا" عبر الشاشات، مما قد يحرره من المسؤولية الأخلاقية .

الدروس المستدامة

"الرجل الخفي" ليست مجرد حكاية خيال علمي، بل مرآة لأخطار التكنولوجيا بلا حكمة. غريفين الذي أراد أن يكون إلهًا، انتهى كـ"وحش بلا جلد" يُضرب حتى الموت في شارع موحل. هذه النهاية تُلخص رسالة ويلز: القوة التي لا تُوازنها الرحمة تصبح دمارًا ذاتيًا. بعد أكثر من قرن على نشرها، تظل الرواية تحذيرًا من أن الاختفاء الحقيقي ليس أن لا تراه العيون، بل أن لا تشعر به الضمائر .