"موقف من الميتافيزيقا" لزكي نجيب محمود
السياق التاريخي والفكري
صدر كتاب "موقف من الميتافيزيقا" أول مرة عام 1953 تحت عنوان "خرافة الميتافيزيقا"، مما أثار جدلًا واسعًا وسوء فهم في الأوساط الفلسفية والدينية.
نتيجةً لذلك، أعاد زكي نجيب محمود صياغة فصوله بعد ثلاثة عقود، محافظًا على النص الأصلي مع إضافة ردود على الانتقادات، وصدرت النسخة المنقحة بعنوان أقل إثارةً: "موقف من الميتافيزيقا" .
يُعد هذا العمل انعكاسًا لتحولات فكر محمود نحو الوضعية المنطقية، متأثرًا بدراسته في إنجلترا وحصوله على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام 1947 .
الإطار النظري والمنهجية
1. التفريق بين العلمي والميتافيزيقي
يرفض زكي نجيب محمود الميتافيزيقا التقليدية التي تدعي وصف الكون أو الغيبيات، ويؤكد أن دور الفيلسوف ليس الوصف بل تحليل لغة العلم. يستند هنا إلى نموذج كانط النقدي، الذي يحصر المعرفة في نطاق التجربة الحسية، ويُعيد تعريف الميتافيزيقا كمحاولة لتجاوز حدود العقل البشري .
2. معيار القبول والرفض في القول الفلسفي
يقدم محمود معيارًا واضحًا:
العبارات العلمية: قابلة للتحقق التجريبي (مثال: "الماء يغلي عند 100°م").
العبارات الوجدانية: تعبر عن مشاعر شخصية ولا تحمل حقيقة موضوعية (مثال: "الجمال فضيلة").
العبارات الميتافيزيقية: عديمة المعنى لأنها لا تقبل التحقق ولا تنتمي للوجدان (مثال: "الروح جوهر سرمدي") .
"الفلسفة تحليل... لا يجوز للفيلسوف أن يصف الكون، بل عليه تحليل ما يقوله العلماء" .
نقد الميتافيزيقا وتفكيكها
1. الميتافيزيقا كـ"خرافة" لغوية
يُشبّه محمود الميتافيزيقا بـ"الكوميديا الأرضية" حيث تُستخدم كلمات فارغة من الدلالة الحسية. يستعير من كارناب فكرة أن الجمل الميتافيزيقية كالبيت الشعري: جميلة الشكل لكنها بلا مضمون معرفي .
2. أسباب بقاء الميتافيزيقا في الثقافة العربية
يحلل محمود ظاهرة "الارتجال في التفكير" في المجتمع المصري، حيث:
يُطلق الحُكّام أحكامًا بلا إحصاءات.
يُقدّم الاقتصاديون مشاريع دون أرقام.
- يتبنى المثقفون أفكارًا غامضة دون تمحيص .يربط هذا بغياب المساءلة الأخلاقية والمنهجية، مما يخلق بيئة خصبة للخطاب الميتافيزيقي غير المسؤول.
3. الميتافيزيقا والأديان: تمييز جوهري
يؤكد أن نقده لا يستهدف الغيبيات الدينية، بل الخطاب الفلسفي الزائف الذي يتخفى بلغة الدين. فالإيمان بالله – بالنسبة له – قيمة وجدانية لا تُحاكم بمعايير العلم .
الفلسفة التحليلية كبديل
1. الوضعية المنطقية وفلسفة اللغة
يدعو محمود إلى تبني نموذج "مدرسة فيينا" التي ترى أن:
الفلسفة يجب أن تكون خادمة للعلم.
مهمتها تحليل اللغة وكشف اللبس في المفاهيم .
2. نماذج تطبيقية للتحليل اللغوي
الرياضيات: جملة "2+3=5" هي مجرد تكرار للهوية ذاتها (توتولوجيا).
العلم الطبيعي: جملة "الضوء ينكسر في الماء" قابلة للاختبار.
الميتافيزيقا: جملة "الوجود ماهية" لا تنتمي لأي صنف .
3. تأثير فلاسفة التحليل
يستند إلى:
برتراند راسل في تحليل البنية المنطقية للغة.
كارناب في تفكيك العبارات الميتافيزيقية .
إشكالات التطبيق على الثقافة العربية
1. أزمة العقل العربي
يشير محمود إلى أن الثقافة العربية تُهمّش العقل لصالح الخطابة والوجدان، مستشهدًا بالبيت العربي:
"لسان الفتى نصف ونصف فؤاده.. فلم يبق إلا صورة اللحم والدم" .أي أننا نُهدر الطاقة في الكلام بدل الفعل.
2. مشروع التوفيق بين التراث والعصر
في نسخة 1980 المطورة، يطرح محمود رؤية لتجديد الفكر العربي عبر:
نقد التراث: بتمييز الجوانب العقلية (مثل إنجازات ابن رشد) من الخرافات.
تبني المنهج العلمي: في التعليم والسياسة والاقتصاد .
3. نموذج "دون كيخوتة" التحذيري
يُحذر من مصير "الفيلسوف الميتافيزيقي" كبطل سرفانتس: يتحدث عن مفاهيم عفا عليها الزمن (كالفروسية)، فيصير مضحكًا .
ردود الفعل والتأثير
1. الجدل حول الطبعة الأولى
تعرضت النسخة الأصلية ("خرافة الميتافيزيقا") لهجوم عنيف:
اتهامات بالإلحاد لمهاجمته "الغيبيات".
سوء فهم لدعوته إلى التمييز بين الإيمان والعلم الزائف .
2. تطور موقف زكي نجيب محمود
في طبعات لاحقة، أوضح أن:
نقده للميتافيزيقا لا يعني رفض الدين.
القيم الأخلاقية ضرورة اجتماعية حتى لو لم تكن "علمية" .
3. الإرث الفكري للكتاب
أصبح مرجعًا لتأسيس تيار "الفلسفة العلمية" في العالم العربي.
أثر في مشاريع تنويرية مثل "تجديد الفكر العربي" لمحمود نفسه .
تقييم نقدي وأهمية مستمرة
1. إيجابيات الرؤية
تطهير الفكر من اللفظ الرنان: دفاعًا عن الصرامة المنهجية.
التأسيس لفلسفة عربية معاصرة: مرتبطة بقضايا العصر .
2. انتقادات موجهة للمنهج
تجاهل حدود العلم: بعض الحقائق (كالأخلاق) لا تخضع للتجربة.
اختزال الفلسفة في التحليل: إغفال لدورها النقدي والجمالي .
3. رسالة الكتاب اليوم
في عصر "ما بعد الحقيقة" وانتشار الشعبوية، تظل دعوة محمود ذات صلة:
"لا تكفي المشاعر لبناء حضارة.. الأمة التي لا تعقل خُطاها تسقط في الهاوية" .
زكي نجيب محمود – سيرة ذاتية موجزة
الحدث | التاريخ |
---|---|
الميلاد في ميت الخولي، دمياط | 1905 |
الدكتوراه من جامعة لندن | 1947 |
إصدار "موقف من الميتافيزيقا" | 1953 |
جائزة الدولة التقديرية | 1975 |
وفاة في القاهرة | 1993 |
حصل على جوائز مثل: جائزة الدولة التشجيعية (1960)، وجائزة الثقافة العربية (1984) .
"الفيلسوف الحق هو من يُعيد ترتيب مفاهيم عصره لا من يسبح في المطلق المجرد" – زكي نجيب محمود
0 تعليقات