ما بعد مبدأ القمع لجيفروا دي لاغاسنري


 

 ما بعد مبدأ القمع: عشر دروس في الإلغائية الجزائية

(Par-delà le principe de répression: Dix leçons sur l'abolitionnisme pénal, Geoffroy de Lagasnerie)


 مشروع ثوري لإعادة تشكيل الأخلاق والعدالة

يقدم جيفروا دي لاغاسنري في هذا الكتاب (الصادر يناير ٢٠٢٥) مشروعًا فلسفيًّا وسياسيًّا جذريًّا يهدف إلى تفكيك المنظومة العقابية السائدة.
عبر عشر دروس مستمدة من محاضرات عامة، يسعى إلى بناء "ثورة رمزية" تُغيِّر كيفية إدراكنا للعنف والعدالة، مستبدلًا مفاهيم مثل "الجريمة" و"المسؤولية الفردية" و"العقاب" بإطار جديد قائم على "الإلغائية الجزائية" (abolitionnisme pénal).
الهدف هو تحرير المجتمع من هيمنة "العقابية" (punitivisme) — وهي إيديولوجيا تشرعن القمع الحكومي عبر السجن والغرامات — وتصميم نموذج أخلاقي بديل يركز على التحليل الاجتماعي والتضامن .

اقتباس جوهري من الكتاب:
"هذا الكتاب تجربة جذرية لاختبار قدرة الفكر على تغيير غرائزنا الأولى... فهل نستحق اسم ‘فلاسفة’ إن عجزنا عن إعادة صوغ طرق إدراكنا وسلوكنا؟" .


 النقد الجذري للمنظومة العقابية

١. العقابية كإيديولوجيا مهيمنة:
يوضح لاغاسنري أن المجتمعات الحديثة تُبنى على "لاوعي عقابي" يجعلنا نُفسر العنف تلقائيًّا عبر مفاهيم "الجريمة" و"المسؤولية الفردية" و"المطالبة بالعقاب". هذه الآلية ليست طبيعية، بل نتاج تاريخي لتراكيب اجتماعية ودولة قمعية. فالسجن — مثلاً — ليس حتميًّا، بل اختراع حديث (منذ القرن ١٨) يُستخدم كأداة سيطرة .

٢. إخفاقات المنظومة العقابية:

  • تعزيز العنف: العقوبات الحكومية (مثل السجن) لا تقلل العنف الاجتماعي، بل تزيده عبر تكريس القمع .

  • إخفاق في حماية الضحايا: النظام القضائي يركز على معاقبة الجاني لا على تعافي الضحية، مما يُعمّق جراحها .

  • تجاهل الأسباب الهيكلية: تحويل المشكلات الاجتماعية (مثل الفقر أو التمييز) إلى "جرائم فردية" يُخفي جذورها النظامية .

٣. تحليل سوسيولوجي للجريمة:
يستند الكتاب إلى إميل دوركايم ليثبت أن "الجريمة ظاهرة طبيعية في أي مجتمع"، إذ تعكس الانحراف عن المعايير السائدة. لكن لاغاسنري يذهب أبعد: فـ"الجريمة" بناء ثقافي — تصبح الأفعال "جرائم" فقط عندما تُصنفها الدولة كذلك. بالتالي، يمكن تفكيك هذا البناء واستبداله بتصورات أخرى .

 مقارنة بين الرؤية العقابية والرؤية الإلغائية

المحورالمنظومة العقابيةالإلغائية الجزائية
مفهوم العنف"جريمة" تستدعي العقاب"جُرح" يحتاج إلى فهم وعلاج
دور الدولةالقمع عبر الشرطة/السجنالتنسيق بين جهات الدعم المجتمعي
الضحاياأدوات في آلة العقابمحور الجهود الإصلاحية
المسؤوليةفردية (افتراض "الإرادة الحرة")جماعية-هيكلية (تحليل السياقات)

 أسس الإلغائية الجزائية كبديل

١. من "الجريمة" إلى "الجُرح":
المفتاح الأول للإلغائية هو استبدال التصنيفات القانونية (جريمة/براءة) بلغة إنسانية تركز على "الجراح". فوصف حادثة كـ"جُرح" بدلاً من "جريمة" يحوّل الانتباه من إلقاء اللوم إلى فهم السياقات الاجتماعية والنفسية المولدة للعنف، مما يفتح مسارات للإصلاح غير القمعي .

٢. تفكيك مفهوم المسؤولية الفردية:
يرفض لاغاسنري فكرة "المسؤولية الفردية" باعتبارها وهمًا اجتماعيًّا. فالأفعال — حتى العنيفة — نتاج شبكة معقدة من العوامل: التربية، الفقر، النظام السياسي... لذا، يجب نقل النقاش من "من المخطئ؟" إلى "كيف نمنع تكرار هذا؟". هذا لا يعني التبرير، بل فهم أعمق يُضعف الحاجة إلى الانتقام .

٣. إعادة تعريف العدالة:

  • العدالة التصالحية لا العقابية: التركيز على حوار بين المتضرر والجاني (إن أمكن) والتعويض المادي/النفسي .

  • بدائل مؤسسية: تحويل الشرطة إلى هيئات "وقاية اجتماعية"، واستبدال السجون بمراكز دعم نفسي-مهني، وتعزيز منظمات المجتمع المدني لإدارة النزاعات .

٤. السياسي كأداة للتغيير:
الإلغائية ليست نظرية مجردة، بل مشروع سياسي يهدف إلى:

  • كسر التحالف بين اليسار التقدمي والدعوات لـ"تشديد العقوبات" (مثل حركات #MeToo أو البيئة).

  • إحياء قيم اليسار الكلاسيكي: التضامن، التغيير الهيكلي (لا معاقبة الأفراد)، والإيمان بقابلية الإنسان للإصلاح .

نقد التيار الإلغائي الحالي:
لاغاسنري ينتقد "السذاجة" لدى بعض الحركات الإلغائية التي تدعو لإلغاء الشرطة/السجون دون تقديم بديل عملي. مشروعه يركز على تغيير الثقافة أولاً، عبر تحويل "الوعي الجمعي" قبل هدم المؤسسات .


 تطبيقات عملية وإشكالات

١. إدارة العنف الجنسي نموذجًا:
في حالات الاغتصاب — حيث تكون الدعوات للعقاب أشد — تقترح الإلغائية:

  • تجنب التقاضي الذي يعيد إيذاء الضحية عبر إجراءات قاسية.

  • توفير دعم نفسي ومجتمعي فوري، مع آليات تضمن للضحية السيطرة على مسار تعافيها.

  • معالجة الجذور (التربية الذكورية، الثقافة المغتصبة) بدلاً من معاقبة الأفراد .

٢. التحديات الرئيسية:

  • مقاومة المشاعر الانتقامية: كيف نقنع ضحية بترك العقاب؟ الإجابة: عبر خطاب يركز على "التعافي" لا "العدالة"، ويظهر فشل العقوبات في تقليل العنف .

  • الانتقادات الشائعة:

    • "الإلغائية تهديد للأمن": الرد أنها تستبدل أدوات قمعية بأخرى أكثر فعالية (مثل برامج الإصلاح الحضري).

    • "إنكار معاناة الضحايا": الرد أنها تضعهم في مركز عملية الإصلاح الحقيقية .

٣. الربط مع حركات اجتماعية:
الكتاب يستلهم نضالات مثل "لجنة أداما تراوري" (ضد عنف الشرطة في فرنسا)، مؤكدًا أن الإلغائية جزء من معركة أوسع ضد عنف الدولة والعنصرية المؤسسية .


 تقييم المشروع ورؤية للمستقبل

١. الثورة الرمزية كشرط للتغيير:
التأكيد على أن التحول السياسي يجب أن يسبقه تحول في "اللاوعي الجمعي". هنا، يستدعي لاغاسنري مفهوم بيير بورديو عن "الثورة الرمزية": تغيير مفاهيمنا يغير عالمنا. لذا، الكتاب نفسه أداة لهذه الثورة عبر إثارة "الدوار الفكري" الذي يزعزع اليقينيات .

٢. دور الفلسفة والسوسيولوجيا:

  • السوسيولوجيا كأداة إلغائية: تحليل البنى الاجتماعية (لا الفرد) هو مفتاح حل العنف.

  • الفلسفة كتجربة وجودية: الكتاب دعوة لتجربة "إعادة توجيه حواسنا" عند مواجهة الظلم، عبر استبدال الغضب بفضول نقدي .

٣. رؤية لمستقبل غير عقابي:
مجتمع "ما بعد القمع" لا ينكر العنف، بل يديره عبر:

  • منظومة غير قضائية: لجان محلية لإدارة النزاعات، وتعويض الضحايا.

  • ثقافة العناية: أولوية للصحة النفسية والعدالة الاقتصادية.

  • تجريد الدولة من احتكار العنف: عبر مراقبة ديمقراطية لأجهزتها .

خاتمة نقدية:
رغم أن مشروع لاغاسنري طموح ويطرح أسئلة حيوية، إلا أن بعض نقاطه تبقى مثالية (كيف نطبق الإلغائية في مجتمعات غير متضامنة؟). مع ذلك، قوته في كونه "محفزًا فكريًّا" يجبرنا على مراجعة بديهياتنا حول العدالة. وكما يقول: "إن لم نستطع تخيل عالم مختلف، فكيف نصنعه؟".


لماذا هذا الكتاب ضروري اليوم؟

في زمن تتصاعد فيه الدعوات العقابية (من اليمين واليسار معًا)، يقدم لاغاسنري مرشدًا جذريًّا لتفكيك ثقافة الانتقام. الكتاب ليس دفاعًا عن "الإفلات من العقاب"، بل بحثًا عن عدالة أكثر إنسانية وفعالية. ترجمته للعربية ستكون إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية، خاصة في سياق النقاشات حول إصلاح الأنظمة القضائية والسجون في العالم العربي .

تفاصيل النشر:

  • العنوان الأصلي: Par-delà le principe de répression: Dix leçons sur l'abolitionnisme pénal

  • المؤلف: Geoffroy de Lagasnerie

  • الناشر: Flammarion (طُبع يناير ٢٠٢٥)

  • الصفحات: ٤١٤

  • الرقم الدولي (ISBN): 9782080460134


 مراجهة الكتاب علي جود ريدز 



Par-delà le principe de répression: Dix leçons sur l'abolitionnisme pénal (French Edition)Par-delà le principe de répression: Dix leçons sur l'abolitionnisme pénal by Geoffroy de Lagasnerie
My rating: 4 of 5 stars

Un manifeste nécessaire et radical.
Dans Par-delà le principe de répression, Geoffroy de Lagasnerie ne se contente pas de critiquer le système pénal : il propose un véritable renversement de notre imaginaire collectif. En dix leçons claires et percutantes, il démonte les mythes de la responsabilité individuelle, du mérite punitif, et de la justice réparatrice, pour poser les bases d’un horizon abolitionniste lucide, éthique et politiquement urgent.

Ce livre ne prône ni naïveté, ni angélisme : il appelle à une révolution symbolique capable de désarmer notre désir de punir. Dans une époque saturée de réflexes sécuritaires, c’est une bouffée d’air critique — et une invitation à repenser ce que nous appelons "justice".

View all my reviews

إرسال تعليق

0 تعليقات