"نظام الخطاب" لميشيل فوكو (1971)
الأهمية الفلسفية
الخلفية التاريخية: أُلقي النص كـ"درس افتتاحي" في كوليج دو فرانس عام 1970، حيث تولى فوكو كرسي "تاريخ أنظمة الفكر".
الإشكالية المركزية: يسأل فوكو: لماذا يُخضع المجتمعُ الخطابَ لشبكة معقدة من الضوابط؟ وذلك انطلاقًا من فرضيته الأساسية:
"أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع يُراقَب ويُنتقى ويُنظَّم ويعاد توزيعه عبر إجراءات تهدف إلى تحييد سلطاته ومخاطره".
الهدف الجذري: الكشف عن الآليات الخفية التي تُسيِّطر على إنتاج الخطاب، وكيف يرتبط ذلك بالسلطة والمعرفة والرغبة، مُشكِّلاً ما يُسمى "نظام الخطاب".
أنظمة الاستبعاد
تهدف هذه الآليات إلى استبعاد خطابات معينة من دائرة المشروعية:
المنع (L'interdit):
التابوهات الثلاثية: تحظر المجتمعات الحديثة الكلام في ثلاثة مجالات رئيسية: السياسة (الانتقاد العلني للسلطة)، الدين (المس بالمقدسات)، والجنس (التعبير عن الرغبة).
الضوابط الإجرائية: لا يُحدد المنع بالموضوع فحسب، بل أيضًا بـ:
الطقوس (مثل خطابات المنابر الدينية أو القضاء).
امتياز المتحدث (حق المفكر أو العالم في التحدث بمواضيع لا يُسمح للعامة بها).
فصل العقل عن الجنون (Le partage Raison-Folie):
تطور تاريخي: في العصور الوسطى، نُظر إلى كلام "المجنون" على أنه يحمل حقيقة متعالية، بينما في العصر الكلاسيكي أصبح "كلامًا بلا قيمة" يُستبعد من النظام القضائي والعلمي.
الاستبعاد المؤسسي: تحولت المؤسسات (مستشفيات الأمراض العقلية، التحليل النفسي) إلى أجهزة لـ"ترويض" خطاب الجنون وفك شفرته بدلاً من إسكاته، مما يُخفي آليات الهيمنة.
إرادة الحقيقة (La volonté de vérité):
التاريخ المتحول للحقيقة: انتقلت "الحقيقة" من كلام الأسياد في اليونان (المرتبط بالطقوس)، إلى خطاب يُحدده شكل العبارة وموضوعها في العصر الحديث.
دور المؤسسات: تُنتج الجامعات والمؤسسات العلمية "أنظمة حقيقة" تُخضع الخطابات الأخرى (مثل إقصاء السفسطائيين لدى أفلاطون).
المفارقة: الحقيقة ليست ثابتة بل "قابلة للتغيير" بتغير السياقات التاريخية، لكنها تُقدَّم بوصفها مطلقة.
مبادئ التصنيف الداخلي
تعمل داخل النظام الخطابي ذاته لتنظيم تدفقه:
مبدأ التعليق (Le commentaire):
الهيمنة النصية: توجد "نصوص أساسية" (دينية، قانونية، أدبية) تُولِّد تعليقات لا حصر لها، لكنها تظل مُقيَّدة بأطر النص الأصلي.
مفارقة فوكو:
"وظيفة التعليق هي أن يقول أخيرًا ما قيل بصمت في الأصل، وأن يكرر ما لم يُقل أبدًا!".
مبدأ المؤلف (L'auteur):
التحول التاريخي: في العصور الوسطى، كان اسم المؤلف يمنح النص شرعيته (مثل نصوص أرسطو)، أما في العلم الحديث، فقد تضاءلت هذه الوظيفة (نظريات نيوتن تُدرس بمعزل عن سيرته).
الأدب كاستثناء: ازدادت أهمية المؤلف في الأدب، حيث يُربط النص بحياته وأسراره (ككتابات كافكا أو دوستويفسكي).
تنظيم التخصصات (L'organisation des disciplines):
الحدود المعرفية: كل فرع علمي (الطب، التاريخ، الفيزياء) يفرض قواعده الخاصة:
المواضيع المسموح بها (ما يُعتبر "مرضًا" في الطب).
المنهجيات المقبولة (التجربة في العلوم).
اللغة الاصطلاحية (المصطلحات القانونية).
الرقابة الذاتية: الباحثون يلتزمون بهذه القواعد طوعًا لضمان قبول خطابهم.
التحكم في الوصول
تتحكم في من يُسمح له بإنتاج الخطاب:
الطقوس (Le rituel):
تُحدد المؤهلات المطلوبة للمتحدث (الشهادات العلمية، الرسامة الكهنوتية).
تضبط سلوكيات الكلام (الوقار في المحكمة، الحماسة في الخطبة السياسية).
جماعات الخطاب (Les sociétés de discours):
مجموعات مغلقة (كالنقابات العلمية، الأحزاب، الكنائس) تُنتج خطاباتها وتحميها من التداول العام، وتتحكم في توزيعها.
المذاهب (Les doctrines):
تُلزم الأتباع بخطاب موحد (الديني أو الأيديولوجي)، وتُعاقب المُخالفين (الهرطقة، التكفير، الطرد الحزبي).
التملك الاجتماعي (L'appropriation sociale):
يُحدد المجتمع من يملك حق الكلام حسب الطبقة أو الجنس أو العرق (خطاب الذكور في المجتمعات التقليدية، خطاب النخبة في الأنظمة الاستبدادية).
الخطاب والسلطة
الخطاب كأداة سلطة:
"الخطاب ليس مجرد تعبير عن الصراع، بل هو الأداة التي يُدار بها الصراع، وهو السلطة ذاتها التي يسعى الجميع للاستيلاء عليها".
آليات التمويه: تُخفي المؤسسات هيمنتها عبر تقديم خطاباتها بوصفها "محايدة" أو "علمية" (مثل الخطاب الطبي الذي يُمرر قيمًا اجتماعية تحت غطاء الموضوعية).
المعرفة كنتاج للسلطة: تُنتج الأنظمة الخطابية "حقائق" تخدم هيمنة فئة معينة (مثل تصنيف السلوكيات على أنها "جنون" أو "جريمة" لضبط المجتمع).
تطبيقات معاصرة
المجال | تطبيق نظرية "نظام الخطاب" |
---|---|
الخطاب الطبي | تصنيف الأمراض يحدد من يحق له العلاج، ويُبرر تدخل الدولة في الجسد (مثل سياسات التلقيح الإلزامي). |
الخطاب القانوني | يُعرِّف "الجريمة" و"البراءة"، ويمنح النظام القضائي سلطة إقصاء الأفراد (السجون). |
وسائل التواصل | تحكم "سياسات المحتوى" الخطابَ الرقمي، وتُقصي أصواتًا تحت ذرائع "مكافحة الكراهية" أو "الحقيقة". |
الخطاب الديني | المؤسسات الدينية تحتكر تفسير النصوص، وتُسكت التأويلات المخالفة عبر فتاوى التكفير . |
تأثير النقدي
ثورة في دراسة الخطاب: نقل فوكو دراسة اللغة من التحليل الدلالي إلى كشف آليات الهيمنة المُتجذرة في أبسط ممارسات الكلام.
النقد الذاتي: تجاهل فوكو دور المقاومة، حيث تُنتج الجماعات المُستبعدة (النساء، الأقليات) خطابات مضادة تُحدث شرخًا في النظام.
الأهمية المستمرة: في عصر "الأخبار المزيفة" و"خطاب الكراهية"، تظل أدوات فوكو ضرورية لفهم كيف تُصنع "الحقيقة" وتُحمى بمؤسسات السلطة.
كلمة فوكو الختامية:
"الكلام ليس محايدًا، إنه فعل خطر. المجتمع يُنظم خطورته عبر نظام الخطاب، لكن تحريره يبدأ بالكشف عن هذا النظام".
مصادر
مودة جمعة (تحليل مفصل لآليات المنع وإرادة الحقيقة) .
رضوان الفجري (نقاش العلاقة بين الخطاب والسلطة).
خلاصة الكتب (تطبيقات نظام الخطاب في المجالات الاجتماعية).
ويكيبيديا الفرنسية والإسبانية (هيكلة الإجراءات الخارجية والداخلية).
عبد المجيد الهلالي (دور المؤسسات في إنتاج الخطاب)
0 تعليقات