"حول العالم في ثمانين يوماً" لجول فيرن
تمهيد
أصبحت "حول العالم في ثمانين يوماً" (1873) للكاتب الفرنسي جول فيرن واحدة من أشهر الأعمال الأدبية في أدب المغامرات والعلوم.
تنتمي هذه الرواية إلى سلسلة "الرحلات غير العادية" التي ألّفها فيرن، والتي تجمع بين الخيال العلمي والمغامرة والاكتشاف.
تحكي الرواية قصة فيلياس فوج، الرجل الإنجليزي الثري الهادئ، الذي يراهن أعضاء ناديه على قدرته على السفر حول العالم في 80 يومًا فقط، مستخدمًا وسائل النقل المتاحة في ذلك العصر مثل القطارات والسفن والفيَلة.
يصطحب معه خادمه الفرنسي باسبارتو، ويواجهان العديد من التحديات والمفارقات خلال رحلتهما.
سنحلل الرواية من عدة جوانب، تشمل البناء الفني، الشخصيات، الأيديولوجيا، السياق التاريخي، الرمزية، والنقد الاجتماعي، مع التركيز على مدى ارتباطها بالواقع في عصرها وبعصرنا الحالي.
1. البناء الفني
أ. الحبكة والسرد
تبني الرواية حبكتها على المغامرة والتشويق، حيث يعتمد جول فيرن على عنصر السباق ضد الزمن لخلق التوتر. يتميز السرد بالدقة والتفاصيل الجغرافية والتقنية، مما يعكس اهتمام فيرن بالعلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن الأحداث أحيانًا تكون مُفعمة بالمصادفات، مثل:
لقاء فوج بالمربية أودا وإنقاذها من الموت.
اعتقاد الشرطي فيكس أن فوج هو اللص الذي يطارده، مما يضيف عنصرًا بوليسيًا.
ب. الوصف والتفاصيل الجغرافية
يقدم فيرن وصفًا دقيقًا للمدن والطرق التي يمر بها فوج، مثل:
بومباي والصراع مع العادات الهندية (مشهد إنقاذ أودا من المحرقة).
هونغ كونغ ومواجهة عصابات الأفيون.
الولايات المتحدة والمواجهة مع الهنود الحمر.
هذه التفاصيل تعكس النظرة الاستشراقية الأوروبية للشرق، حيث يتم تصوير الشعوب غير الأوروبية إما كبدائية أو غريبة الأطوار.
ج. اللغة والأسلوب
يستخدم فيرن لغة واضحة وسردًا خطيًا، مع إدخال بعض المصطلحات التقنية المتعلقة بالمواصلات، مما يجعل الرواية تعليمية إلى حد ما. ومع ذلك، فإن الحوارات بين الشخصيات (خاصة باسبارتو) تضيف لمسة فكاهية تخفف من جدية الأحداث.
2. الشخصيات الرئيسية
أ. فيلياس فوج: البطل الميكانيكي
شخصية جامدة، يعتمد على الدقة والمنطق، وكأنه آلة محسوبة.
لا يظهر مشاعر واضحة إلا في لحظات نادرة (مثل إنقاذ أودا أو مشهد الاعتقال).
يمثل العقلانية الغربية المفرطة، التي تتعارض مع العفوية البشرية.
ب. باسبارتو: الخادم العفوي
شخصية ديناميكية، مليئة بالحماس والأخطاء.
يمثل الطبقة العاملة والبرجوازية الصاعدة في فرنسا.
يتطور خلال الرحلة، حيث يصبح أكثر نضجًا وولاءً لسيده.
ج. أودا: المرأة المنقذة
على الرغم من أنها شخصية ثانوية، إلا أنها تُمثل صورة المرأة الشرقية التي تحتاج إلى إنقاذ من قبل الرجل الأوروبي (فوج).
دورها يظل محدودًا، مما يعكس النظرة الذكورية السائدة في القرن التاسع عشر.
د. فيكس: الشرطي العنيد
يرمز إلى السلطة الغبية التي تتبع الشك دون دليل.
يساهم في تعقيد الرحلة، لكنه في النهاية يُظهر أن النظام الأوروبي قادر على الاعتراف بأخطائه.
3. الأيديولوجيا والرؤية
أ. الاستعمار والتفوق الأوروبي
تظهر الرواية الفخر بالتقدم التكنولوجي الأوروبي، حيث يتمكن فوج من تحقيق المستحيل بفضل القطارات والسفن البخارية.
الشعوب غير الأوروبية (مثل الهنود والأمريكيين الأصليين) تُصوَّر كـ "آخر" غريب يحتاج إلى السيطرة أو الإنقاذ.
ب. الرأسمالية والفردية
فوج رأسمالي بامتياز، يستخدم المال لحل كل المشكلات (رشوة بحارة السفينة، شراء فيل، إلخ).
الرهان نفسه يعكس ثقافة المقامرة والاستثمار التي سادت في أوروبا خلال الثورة الصناعية.
ج. النقد الاجتماعي الخفي
رغم أن الرواية تبدو مغامرة خالصة، إلا أن فيها نقدًا لـ الروتين والحياة الميكانيكية (تمثّل في شخصية فوج).
باسبارتو، ببراءته، يطرح أسئلة عن معنى الحياة خارج الماديات.
4. تأثير الرواية
أ. الثورة الصناعية وتطور المواصلات
كُتبت الرواية في فترة شهدت تطورًا هائلًا في وسائل النقل (القطار، البواخر)، مما جعل فكرة السفر حول العالم ممكنة. فيرن يستشرف المستقبل، حيث أصبحت الرحلة التي استغرقت 80 يومًا في الرواية تستغرق اليوم أقل من يومين بالطائرة!
ب. الاستشراق والهيمنة الثقافية
الرواية تعكس النظرة الأوروبية الاستعمارية للعالم، حيث:
الشرق مكان غرائبي وخطير.
الغرب (ممثلًا بفوج) هو المنقذ والمتحضر.
5. الرمزية في الرواية
الساعة: ترمز إلى هوس الغرب بالوقت والدقة (فوج يحرص على ثانية واحدة!).
الرهان: يمثل المغامرة الرأسمالية، حيث يمكن كسب كل شيء أو خسارته في لحظة.
باسبارتو: رمز الإنسان العادي الذي يكتشف العالم رغم جهله.
6. إيجابيات وسلبيات الرواية
الإيجابيات:
الرواية سبّاقة في تصور عالم مترابط قبل العولمة.
الجمع بين المغامرة والتعليم (جغرافيا، تقنيات).
شخصية باسبارتو تضيف الكوميديا والإنسانية.
السلبيات:
صورة نمطية للشعوب غير الأوروبية.
شخصية فوج باردة ميكانيكية، مما يقلل من التعاطف معه.
أحداث تعتمد على المصادفات المبالغ فيها.
صلة الرواية باليوم
رغم أن "حول العالم في ثمانين يوماً" كُتبت في القرن التاسع عشر، إلا أنها تطرح قضايا لا تزال حية:
العولمة: العالم اليوم أكثر ترابطًا، لكن الفجوات بين الشرق والغرب ما زالت موجودة.
الهوس بالوقت: البشرية اليوم أكثر استعجالًا من فيلياس فوج!
الاستشراق: النظرة الغربية للشرق ما زالت تحمل الكثير من الصور النمطية.
الرواية، إذن، ليست مجرد مغامرة، بل نص يحمل رؤية حضارية تحتاج إلى قراءة نقدية عميقة.
ملخصا
جول فيرن، عبر هذه الرواية، لم يقدّم فقط قصة مسلية، بل وثّق روح عصر كان فيه العالم يتقلص بفضل التكنولوجيا، لكنه كان يتسع أيضًا بفعل الأحكام المسبقة. الرواية تستحق القراءة ليس كعمل أدبي فحسب، بل كـ وثيقة تاريخية عن صراع الإنسان مع الزمن والمكان
0 تعليقات