في مديح البطء لكارل أونوريه

 


في مديح البطء

 حراك عالمي يتحدى عبادة السرعة

كارل أونوريه

 أزمة العصر السريع وأصل الفكرة

ظهر كتاب "في مديح البطء" للصحفي الكندي كارل أونوريه عام 2004، وحقق انتشارًا عالميًا واسعًا، وظل لسنوات على قوائم الكتب الأكثر مبيعًا. 

ينطلق أونوريه من تجربته الشخصية عندما وجد نفسه يقرأ قصص أطفاله بسرعة ليختصر الوقت، فاكتشف أنه فقد متعة التربوية والروابط العاطفية مع أبنائه. 

هذا الدافع قاده لاستكشاف فلسفة "الحركة البطيئة" العالمية التي تتحدى ثقافة السرعة المهيمنة. 

الكتاب صدر بالعربية عام 2017 بترجمة ماهر الجنيدي في 337 صفحة، ويناقش كيف تحولت السرعة من أداة مفيدة إلى "عبادة" تهدد صحتنا وعلاقاتنا وإنسانيتنا .

 تشخيص "مرض السرعة" وأعراضه

يصف أونوريه العصر الحديث بأنه مصاب بـ "مرض الوقت" (Time Sickness)، أي الهوس الوسواسي باختصار الوقت وإنجاز المهام بسرعة قياسية. تظهر أعراض هذا المرض في:

  • التهام الطعام بدل تذوقه، حيث أصبحنا "نغرف، نبلع، ونمضي" .

  • تعدد المهام (Multitasking) الذي يؤدي إلى تشتيت الذهن وضعف الجودة .

  • الغضب المزمن في الطوابير والمرور، وفقدان الصبر حتى في اللحظات الترفيهية .

  • العلاقات السطحية: 25% من البريطانيين لا يعرفون أسماء جيرانهم .

"عندما تجري الأمور بسرعة كبيرة، لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا من أي شيء، أي شيء على الإطلاق، ولا حتى من نفسه" – ميلان كونديرا .

 فلسفة البطء – التوازن وليس الكسل

يؤكد أونوريه أن الحركة البطيئة لا تعني الكسل أو الجمود، بل هي فلسفة توازن:

"أسرع عندما يكون منطقيًا أن تسرع، وأبطئ عندما يكون هناك داعٍ للبطء" .

ويوضح الفرق بين نمطي الحياة عبر هذه المقارنة:

الحياة السريعةالحياة البطيئة
مشغول، متحكم، متعجلهادئ، متأنٍ، صبور
تحليلي، مجهد، سطحيحدسي، مرتاح، عميق
يفضل الكم على الكيفيفضل الجودة على الكمية
يعيش لتحقيق الأهدافيعيش لتجربة اللحظة

 تجليات الحركة البطيئة في مجالات الحياة

١. الطعام: من "الوجبات السريعة" إلى "الغذاء البطيء"

انطلقت الحركة عام 1986 في إيطاليا عندما احتج كارلو بيتريني على افتتاح ماكدونالدز في روما، مؤسسًا "حركة الغذاء البطيء" (Slow Food) التي تدعو إلى:

  • احترام مواسم الغذاء وتقليل الضرر البيئي.

  • إحياء الصلة بين المزارع والمستهلك.

  • التمتع بالنكهات والروائح عبر المضغ البطيء، مما يحسن الهضم ويقلل الإفراط في الأكل .

٢. المدن: من الضوضاء إلى "المدن الهادئة"

ظهرت فكرة "المدن البطيئة" (Cittaslow) في إيطاليا أيضًا، وتشمل:

  • خفض الضوضاء: توجيهات أوروبية تلزم المدن بخفض الضجيج بعد الساعة 7 مساءً.

  • إبطاء المرور: حملات ضد القيادة السريعة لتعزيز السلامة.

  • التواصل المجتمعي: تصميم ساحات عامة تشجع على الحوار بدل العزلة .
    مثال: منطقة أوكيناوا الريفية في اليابان، التي تحولت من محل سخرية إلى وجهة للمتعبين من إيقاع المدن السريع .

٣. العمل: الإنتاجية بالهدوء لا بالإرهاق

يكشف أونوريه أن العمل بلا توقف يقلل الإبداع ويرفع نسبة الأخطاء. الحل هو:

  • أخذ فترات راحة للتأمل.

  • رفض تعدد المهام والتركيز على نشاط واحد بجودة عالية.

  • تحديد أولويات تقطع مع ثقافة "الانشغال الدائم" كدليل على النجاح .

٤. الصحة: العلاج البطيء والطب التكاملي

ينتقد الكتاب هوس الطب الحديث بالسرعة، حيث:

  • يخصص الأطباء أقل من 10 دقائق للمريض.

  • يعالج الأعراض دون البحث عن الأسباب الجذرية.
    الحل يكمن في دمج الطب التقليدي مع ممارسات "بطيئة" مثل:

  • التأمل لخفض التوتر.

  • الوخز بالإبر والعلاجات الطبيعية التي تحتاج جلسات مطولة .

٥. التربية: تربية أطفال "بلا جدول زمني"

تحول الأطفال إلى "مشاريع إنجاز" تحت ضغط الدروس والأنشطة. تقترح الفلسفة البطيئة:

  • منحهم مساحات فراغ للإبداع.

  • تقليل الملهيات الإلكترونية لتعميق التركيز.

  • اللعب غير الموجَّه الذي ينمي حل المشكلات .

٦. العقل: من "التفكير السريع" إلى "التفكير البطيء"

يستند الكتاب إلى نظرية الطبيب النفسي غاي كلاكستون:

  • التفكير السريع: تحليلي، خطي، يُستخدم تحت الضغط، يشبه عمل الحاسوب.

  • التفكير البطيء: حدسي، إبداعي، يظهر عندما نمنح العقل مساحة للتأمل.

"بعض الأفكار التي غيّرت العالم جاءت في لحظات تأمل" .

 تأثير الكتاب والانتقادات الموجهة له

التأثير العالمي

  • انتشار الحركة البطيئة: توسعت لتشمل السفر البطيء، التصميم البطيء، وحتى الجنس البطيء .

  • أثناء الجائحة: زاد البحث عن مصطلح "الحياة البطيئة" 4 أضعاف على جوجل، مع تحول الكثيرين للعمل عن بعد والبحث عن الهدوء .

  • مبيعات قياسية: حقق الكتاب انتشارًا في 35 دولة، وتصدر القوائم العالمية .

انتقادات وردود أونوريه

واجه الكتاب انتقادات مثل:

  • "الانفصال عن الواقع": خاصة في مجالات تتطلب السرعة (كخدمات الطوارئ).

  • "الإفراط في التكرار" في بعض الفصول.

  • "رفض التكنولوجيا" ضمنيًا .

رد أونوريه بأنه:

  • لا يرفع شعار "البطء المطلق"، بل التوازن بين السرعة والبطء.

  • التكنولوجيا مفيدة إذا وُظفت بوعي: "تعلم متى تمضي معها، ومتى تبطئ" .

كيف نتبنى البطء في حياتنا؟

يقدم الكتاب نصائح عملية لبدء الرحلة:

  1. الطعام: اجعل وجبة واحدة يوميًا بدون هاتف أو تلفاز، مع مضغ كل لقمة 20 مرة .

  2. العمل: خذ 5 دقائق تأمل كل ساعتين، وارفض "ردود الفوريّة" في الإيميلات .

  3. العلاقات: أسس طقوسًا أسبوعية للقاء الأصدقاء دون شاشات .

  4. التكنولوجيا: حدد "ساعات بلا إنترنت" يوميًا .

  5. الأطفال: امنحهم 30 دقيقة يوميًا للعب الحر دون توجيه .

"الحياة أقصر من أن نضيّعها بالإسراع" – خاتمة الكتاب .

 لماذا يبقى الكتاب ضروريًا بعد 20 عامًا؟

رغم مرور أكثر من عقدين على صدوره، تزداد رسالة الكتاب إلحاحًا بسبب:

  • تضخم الإلهاء الرقمي: وسائل التواصل حوّلتنا إلى "مدمني سرعة" في تفقد الإشعارات.

  • صحة نفسية عالمية: تقارير منظمة الصحة العالمية تؤكد ارتفاع الاكتئاب والقلق مرتبطًا بتسارع الحياة.

  • الاستدامة البيئية: الحياة البطيئة تشجع الاستهلاك الواعي، مما يقلل الهدر .

يظل "في مديح البطء" ليس مجرد كتاب، بل بيانًا لإعادة إنسانيتنا في عصر لا يتوقف. كما يلخص أونوريه:

"الهدف ليس العيش بوتيرة السلحفاة، بل العثور على إيقاعنا البشري الأصيل

إرسال تعليق

0 تعليقات