أناسٌ صالحون وعاقلون - الدوافع النفسية وراء الانقسام الأمريكي الخطير

Good Reasonable People: The Psychology Behind America's Dangerous Divide

للمؤلف: كيث باين (Keith Payne)

المقدمة: طبيعة الانقسام وخطورته

يُعد كتاب "Good Reasonable People" (2024) تحليلاً نفسياً عميقاً لجذور الاستقطاب السياسي في أمريكا، وكيفية تحويل الخلافات الفكرية إلى هويات عدائية تهدد النسيج الاجتماعي.

المؤلِّف، كيث باين، أستاذ علم النفس والأعصاب بجامعة نورث كارولينا، يجمع بين خبرته الأكاديمية وتجربته الشخصية نشأةً في عائلة مسيحية محافظة ببلدة صغيرة في كنتاكي، ثم تحوُّله إلى ليبرالي علماني بعد التعليم الجامعي .

يرفض باين التركيز على النخب السياسية، وبدلاً من ذلك يُركِّز على كيف يُفسِّر "البشر العاديون" الخلافات السياسية، وكيف تُدمِّر هذه الخلافات العلاقات الشخصية والعائلية.

الكتاب حاصل على لقاح "أبرز كتب العلوم السلوكية لعام 2024" ، وحظي بإشادة من كُتَّاب مثل آدم جرانت ومارجوت لي شاترلي، الذين أشادوا بإطار العمل الذي يقدِّمه لفهم "الآخر" دون تسييس.

الأفكار المركزية للكتاب

الوهم الأساسي: "أنا عقلاني، والآخرون جهلة"
يشرح باين أن الاعتقاد بأن الخصوم السياسيين "غير عقلانيين" هو وهم عالمي ينبع من حاجة نفسية عميقة: حماية صورة الذات كشخص جيد ومعقول. هذه الحاجة تُفعِّل ما يُسمِّيه "الجهاز المناعي النفسي" (Psychological Immune System)، الذي يُشوِّه الحقائق لتبرير المواقف المسبقة، ويُقسِّم العالم إلى "نحن" (العقلانيون) و"هم" (الجهلة).
- التجارب الداعمة: في تجارب أجريت على طلبة الجامعات، كافأ الطلاب أعضاء مجموعتهم (حتى لو كانت المجموعات مُصنَّفة بناءً على معايير عشوائية مثل "مُبالِغون في تقدير النقاط" vs "مُقَصِّرون")، واعتبروا أنفسهم الأذكى والأكثر أخلاقية.
- التطبيق على السياسة: يُبرِّر الليبراليون رفضهم للآراء المحافظة باعتبارها "عنصرية"، بينما يُبرِّر المحافظون رفضهم للليبرالية باعتبارها "فاسدة أخلاقياً"، وكلا الجانبين يستخدمان الحقائق الانتقائية لحماية هويتهما.
سيكولوجيا الهوية: لماذا تُحوِّل السياسة إلى دين؟
وفقاً لباين، لم تعد الانتماءات السياسية مجرد "آراء"، بل أصبحت هوياتٍ وجودية تُشبه الهوية الدينية أو العرقية. هذا التحوُّل يجعل الخلافات تهديداً للذات، وليس فقط للرأي.
- دور التاريخ: يُوضِّح كيف أن الخريطة الانتخابية الأمريكية (التي رسمها لينكولن) تعكس انقسامات ثقافية قديمة: سكان المدن (التقدميون، المفتوحون على التغيير) vs سكان الريف (المحافظون، الحريصون على الاستقرار).
- مثال شخصي: يصف باين كيف كان ضحك عائلته على نكات راش ليمبو (مذيع محافظ) ضد النسويات "مقبولاً" لأنه لم يكن يعرف أي نسويات في بلدته التي كان سكانها 100% بيض.
"التبرير المرن": الآلية الخفية وراء التعصُّب
يُقدِّم باين مفهوم Flexible Rationalization كأداة نفسية تسمح للإنسان بتغيير معايير "الصواب" حسب الموقف ليبقى مقتنعاً بأنه "الشخص الجيد".
- دراسة حالة: مؤيدو ترامب الذين ينتقدون سلوكاً أخلاقياً في خصومه، ثم يُبرِّرون نفس السلوك عندما يصدر منه، باستخدام حجج مختلفة جذرياً.
- التأثير على العائلات: العائلات التي تجنبت الحديث عن السياسة (كالتركيز على الطقس أو الرياضة) نجحت أكثر في الحفاظ على روابطها، لأنها فصلت بين "الهوية" و"الرأي".

آليات تعميق الانقسام في العصر الرقمي

وسائل التواصل الاجتماعي: تصفية المحتوى (Filter Bubbles) تُعيد تدوير الأفكار المتطرفة، وتحول الخلاف إلى عداء. باين يحذِّر: "الغضب يُشبه السكر—يُفعِّل المتعة قصيرة المدى، لكنه يدمِّر على المدى الطويل".
الإعلام: تحويل السياسة إلى "رياضة دموية" حيث الفوز هو الهدف، وليس الحقيقة أو المصلحة العامة.
الانعكاس النفسي: كلما زاد شعور الشخص بالتهديد (اقتصادياً أو ثقافياً)، زاد تمسُّكه بهويته السياسية كحصن نفسي.

حلول عملية: كيف نُقلِّل الضرر؟

يقدِّم باين أدواتٍ مُستندةً إلى علم النفس لتجاوز الانقسام، مؤكداً أن الحل ليس في "التخلِّي عن المبادئ"، بل في فصل الخلاف السياسي عن القيمة الإنسانية:

مبدأ "المنافس، لا العدو"
- تحويل النقاش من "معركة وجودية" إلى "منافسة فكرية" بمجال للتعايش.
- مثال: عند مناقشة قضية مثل الإجهاض، ابدأ بالسؤال: "ما الظروف التي قد تجعلك تُغيِّر رأيك؟" هذا يُضعف الحواجز الدفاعية.
تقنية "السرد المزدوج" (Dual Narrative)
- سرد حكاية الخلاف من منظور الطرفين دون إصدار أحكام، مثل:
  "الليبرالي يرى أن دعم السلاح = تجاهل مذبحة مدرسة... المحافظ يرى أن معارضة السلاح = تجاهل حق الدفاع عن العائلة في منطقة نائية".
- الدراسات تُظهر أن هذه الطريقة تُقلِّل معدل ارتفاع ضغط الدم أثناء النقاشات الحادة بنسبة 40%.
إعادة تعريف "الهوية المشتركة"
- البحث عن نقاط الاتفاق غير السياسية (الهوايات، التحديات الشخصية، التراث المحلي).
- باين يروي كيف جمعته لعبة البوكر بابن عمه المؤيد لترامب بعد صمت ٦ سنوات، واكتشاف أنهما يعانيان من نفس المرض المزمن.
التدخل المؤسسي:
- لصانعي السياسات: تطبيق "فترات صمت" قبل التصويت على القوانين المثيرة للانقسام.
- لشركات التكنولوجيا: تغيير خوارزميات التوصية لتُظهر محتوى "معتدل" بين الآراء المتطرفة.

استراتيجيات تقليل الانقسام في الحياة اليومية:

الاستراتيجية	آلية التطبيق	مثال واقعي
التسامح مع التناقض	تقبُّل أن يكون الرأي صحيحاً وناقصاً	"أؤمن بحق الإجهاض، لكني أفهم مخاوف المحافظين من إساءة استخدامه"
الفضول الاستقصائي	السؤال بدلاً من الإدلاء بالرأي	"ما التجرِبة التي جعلتك تتبنى هذا الرأي؟"
تحديد الحدود	تجنُّب المواضيع المتفجِّرة مع أشخاص محددين	عدم مناقشة العرق أو الدين مع الجدّ المحافظ

انتقادات للكتاب

رغم الإشادات، وُجِّهت للكتاب انتقادات، أبرزها:

انحياز ضمني: بعض القراء رأوا أن باين يعامل الليبرالية كـ"معيار عقلاني"، ويُقلِّل من شرعية المخاوف المحافظة (مثل الهجرة أو الدين).
تجاهل "حدود التسامح": لم يُعالج كيف نتعامل مع آراء تُهدِّد حقوق الإنسان الأساسية (كالعنصرية الصريحة).
التبسيط المفرط: تعقيدات الانقسام (كالتأثير الرأسمالي أو دور النخب) لم تُغطَّى بعمق.

لماذا هذا الكتاب ضروري اليوم؟

"Good Reasonable People" ليس كتاباً عن السياسة، بل عن الكرامة الإنسانية في زمن الاستقطاب.

يُذكِّرنا باين أن "العدو" ليس مجرد خصم، بل إنسان يُشاركنا الحاجة ذاتها: أن يُعترَف به كشخص معقول وجدير بالاحترام.

الكتاب يُقدِّم أدواتٍ عملية لتحويل السياسة من "حرب هويات" إلى "اختلافات قابلة للإدارة"، وهو رسالة أمل في أن الانقسام ليس قدراً لا يُتجاوز.

"التحدي ليس في إقناع الآخرين بأننا على حق، بل في رؤية الإنسان وراء الرأي... حتى لو ظل الرأي نفسه خطيراً." — كيث باين

ملخصا

أناسٌ صالحون وعاقلون - الدوافع النفسية وراء الانقسام الأمريكي الخطير