الاعتقاد الخاطئ: ما الذي يدفع العقلانيين إلى تصديق أمور غير منطقية؟
Misbelief: What Makes Rational People Believe Irrational Things لدان أريلي
رحلة المؤلف الشخصية وفكرة "سوء الفهم"
بدأ دان أريلي (أستاذ علم النفس والاقتصاد السلوكي بجامعة ديوك) رحلته لاستكشاف "سوء الفهم" (Misbelief) بعد تجربة شخصية مروعة في يوليو 2020،
عندما اتُهم عبر البريد الإلكتروني بالمشاركة في مؤامرة مع بيل غيتس والمتنورين (Illuminati) لخلق جائحة كوفيد-19 وقتل الأصحاء عبر اللقاحات .
هذه التجربة قادته إلى دراسة الآلية النفسية التي تحول الأشخاص العقلاء إلى مؤمنين بمعتقدات غير عقلانية، أطلق عليها اسم "قمع سوء الفهم" (Funnel of Misbelief)، والتي تتكون من 4 عناصر:
العاطفي (الضغط النفسي).
المعرفي (الانحيازات الذهنية).
الشخصي (سمات الشخصية).
الاجتماعي (التأثير الجماعي).
العوامل العاطفية – الضغط النفسي وفقدان السيطرة
أ. دور الضغط غير المتوقع
يشير أريلي إلى أن الضغط النفسي – خاصة النوع غير المتوقع (مثل فقدان العمل المفاجئ أو الجائحة) – يخلق شعورًا بالعجز ويفتح الباب لسوء الفهم. التجارب تظهر أن الأشخاص تحت الضغط:
يبحثون عن أنماط حيث لا وجود لها (مثل رؤية أشكال في نقاط عشوائية).
يفضلون تفسيرات تُرجع المشاكل إلى "أشرار" (كالحكومات أو المؤامرات) بدلًا من قبول التعقيد أو الصدف.
ب. الحاجة إلى التحكم
عندما يفقد الناس السيطرة على حياتهم، يلجؤون إلى المعتقدات غير العقلانية لأنها:
تُشعرهم بفهم "أسرار" خفية عن الآخرين.
تمنحهم وهم التحكم في أحداث غير مألوفة.
"عندما لا نفهم العالم من حولنا، نبحث عن قصة تُفسِّر الأشياء... وغالبًا ما نجد شيطانًا بدلًا من ملاك" – دان أريلي.
العوامل المعرفية – انحيازات العقل البشري
يشرح أريلي كيف تُشوِّه الانحيازات الذهنية إدراكنا للواقع، وأهمها:
الانحيازات الرئيسية المسببة لسوء الفهم
الانحياز | التعريف | مثال واقعي | |
---|---|---|---|
الانحياز التأكيدي | البحث عن معلومات تدعم معتقداتنا وتجاهل ما يناقضها | متابعون فقط لمنصات تؤكد رؤيتهم السياسية | |
التفكير المتحيز | تحريف الحقائق لتتناسب مع الاستنتاجات المرغوبة | رفض أدلة علمية لأنها تتعارض مع الهوية | |
انحياز التناسب | افتراض أن الأحداث الكبيرة يجب أن يكون سببها أكبر | ربط كوفيد-19 بمؤامرة عالمية معقدة | |
وهم العمق التفسيري | المبالغة في تقدير فهمنا لموضوع معقد | الاعتقاد بأن خبرة بسيطة في الطب تكفي لرفض اللقاحات |
تأثير التصعيد والتزام الذات
التصعيد (Escalation): قول أشياء لا نؤمن بها في البداية لإظهار الولاء للمجموعة، ثم نبدأ بتصديقها مع الوقت.
التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance): التمسك بالمعتقدات الخاطئة لتبرير الاستثمارات السابقة (وقت، مال، سمعة).
العوامل الشخصية – من هم الأكثر عرضة؟
ليس الجميع متساوين في القابلية لسوء الفهم. بعض السمات تزيد الخطر:
أ. الذاكرة المعيبة والخلل الإدراكي
في تجارب على أشخاص يدَّعون اختطافهم من قِبَل كائنات فضائية، وُجد أنهم يميلون إلى:
تذكر تفاصيل لم تحدث (مثل الإجابة بنعم عند سؤالهم إن كانت كلمة "مشمش" في قائمة تحتوي "برتقال، تفاح، موز").
تفسير تجارب مثل شلل النوم (Sleep Paralysis) على أنها اختطاف فضائي بسبب سوء تفسير الإشارات الجسدية.
ب. النرجسية والتواضع الفكري المنخفض
الأشخاص ذوو:
نرجسية عالية: يصدقون أن وجهات نظرهم فريدة وأسمى من الآخرين.
تواضع فكري منخفض: يرفضون تصحيح معتقداتهم حتى عند مواجهتهم بأدلة، لأن الاعتراف بالخطأ يهدد هويتهم.
ج. الإبداع والحدس كسلاح ذو حدين
المفارقة هي أن بعض السمات "الإيجابية" مثل:
الحدس القوي.
- الإبداع في ربط الأفكار.قد تدفع الأشخاص إلى تكوين نظريات معقدة غير مثبتة.
العوامل الاجتماعية – قوة الانتماء والعزل
أ. التهميش (Ostracism) والحاجة إلى الانتماء
تجربة عالم النفس كيب ويليامز في حديقة الكلاب توضح كيف أن الشعور بالتهميش – حتى من غرباء – يسبب ألمًا نفسيًا عميقًا. في سياق سوء الفهم:
عندما يُسخر من شخص بسبب رأيه (مثل الإيمان بـ "الأرض المسطحة")، يشعر بالرفض.
هذا يدفعه للبحث عن مجتمعات بديلة تُشعره بالقبول، حتى لو تبنت معتقدات متطرفة.
ب. غرف الصدى (Echo Chambers) وتأثير الشبكات
وسائل التواصل الاجتماعي تعزز سوء الفهم عبر:
خوارزميات تُظهر محتوى متطرفًا لأنه يجذب الانتباه.
إثبات الاجتماعي (Social Proof): تصديق الأفكار لأن "الكثيرين" يؤمنون بها.
استقطاب جماعي (Group Polarization): تصبح المجموعات أكثر تطرفًا مع الوقت.
"الكره له متعته... إنه تعويض يمنحه الإنسان الخائف لنفسه مقابل بؤس الخوف" – دان أريلي.
عواقب سوء الفهم – من الشخصي إلى المجتمعي
أ. تآكل الثقة
سوء الفهم يخلق حلقة مفرغة:
فقدان الثقة في المؤسسات (الحكومات، الإعلام، العلم).
انهيار التماسك الاجتماعي، مما يُصعِّب مواجهة التحديات المشتركة (مثل الجوائح أو التغير المناخي).
ب. مخاطر الانهيار الديمقراطي
يُحذر أريلي من تداعيات سوء الفهم على الديمقراطية، خاصة قبل انتخابات 2024 في الولايات المتحدة، حيث:
انتشار ادعاءات "تزوير الانتخابات" دون أدلة يقوض شرعية النظام.
يصبح الحوار مستحيلًا بين مجموعات لا تتشارك حقائق أساسية.
استراتيجيات المواجهة – من الفرد إلى المجتمع
أ. على المستوى الفردي
مواجهة الانحيازات:
ابحث بنشاط عن معلومات تناقض معتقداتك.
استخدم تقنية الرجل الفولاذي (Steel Man): قدّم الحجة المعارضة بأقوى شكل ممكن قبل نقدها.
إدارة الضغط:
مارس التأمل أو الرياضة لتقليل تأثير التوتر على التفكير.
التواضع الفكري:
تذكر: "قليل من العلم خطر" – فكلما زادت معرفتك بموضوع، أدركت مدى جهلك به.
ب. على المستوى الاجتماعي
التعاطف بدل المواجهة:
لا تسخر من معتقدات الآخرين؛ فهم يتبنونها لحاجات نفسية عميقة.
استمع أولًا، ثم ناقش بالأدلة بلطف.
مكافحة العزلة:
ادعم الأشخاص المعرضين للتهميش (عائليًا، اجتماعيًا، سياسيًا).
تعزيز الشفافية:
مطالبة المؤسسات بالانفتاح يقلل نظريات "التستر".
سوء الفهم كظاهرة إنسانية (وليس شذوذًا)
يختتم أريلي بالتأكيد على أن سوء الفهم:
ليس حكرًا على "الجهلة" أو "المتطرفين": أي شخص تحت ضغط كافٍ مع سمات شخصية معينة قد يسقط في "قمع سوء الفهم".
حلوله إنسانية: المواجهة تتطلب فهمًا نفسيًا وتعاطفًا أكثر من التثقيف أو القمع.
نداء للأمل: الوعي بآليات سوء الفهم يجعلنا كأفراد ومجتمعات أكثر مناعة ضد جاذبيته، خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي القادر على توليد معلومات زائفة بكميات غير مسبوقة.
"الثقة كالماء بالنسبة للسمك: لا تلاحظها لأنك محاط بها دائمًا... لكن اختفاءها يهدد وجودنا" – دان أريلي.
أهم الاقتباسات من الكتاب
"لا تُعزِ كل شيء إلى الخبث... عندما يكفي الجهل لتفسير الخطأ" – تنسب لحكمة قديمة (Hanlon’s Razor).
"الشرح الأبسط هو الأرجح… لكن ليس الأكثر إرضاءً لعقولنا المتعطشة للدراما" – على نهج شفرة أوكام (Occam’s Razor).
"لفهم المعتقد، ابحث عن الحاجة التي يلبيها" – دان أريلي.
0 تعليقات