فهم الثورة الكمومية

فهم الثورة الكمومية - كارلو روفيللي


Helgoland: Making Sense of the Quantum Revolution

 هيلجولاند: فهم ثورة الكم

الجزيرة التي هزت العالم

يحمل كتاب "هيلجولاند: فهم ثورة الكم" للفيزيائي الإيطالي كارلو روفيللي عنواناً مستمداً من قصة تأسيسية في تاريخ العلم: جزيرة هيلجولاند (أو هيليغولاند) القاحلة في بحر الشمال، حيث عزل الشاب فيرنر هايزنبرغ (البالغ 23 عاماً) نفسه عام 1925 لعلاج حساسيته، وهناك توصل إلى الركائز الأولى لميكانيكا الكم التي غيرت فهمنا للواقع إلى الأبد.

لا يكتفي روفيللي (المشهور بكتبه مثل "سبع دروس موجزة في الفيزياء" و"نظام الزمن") بسرد التاريخ، بل يقدم رؤية ثورية لحل ألغاز الكم عبر مفهوم "العلائقية" (Relational Interpretation)، مُحاججاً أن العالم مبني على العلاقات وليس الجواهر الثابتة. صدر الكتاب بالإيطالية عام 2020، ونقلته للإنجليزية عام 2021 كل من إيريكا سيغلي وسيمون كارنيل.


 ولادة وحش الكم

يصف روفيللي اللحظة الحاسمة عندما أدرك هايزنبرغ أن الفيزياء الكلاسيكية عاجزة عن تفسير سلوك الإلكترونات في الذرة. بدلاً من افتراض مدارات إلكترونية ثابتة (كما تصورها بور أولاً)، تخيل هايزنبرغ الرياضيات التي تصف العلاقات بين القياسات فقط، دون افتراض مسارات مخفية. هذه الفكرة التجريدية أصبحت نواة مصفوفات هايزنبرغ، أساس ميكانيكا الكم.
لكن الثمن كان باهظاً: لقد ولدت مفارقات غريبة:

  • التراكب الكمي: جسيم يمكن أن يكون في حالتين متناقضتين في وقت واحد (مثل دوران لأعلى ولأسفل).

  • الانهيار الموجي: مجرد قياس أو مراقبة ينقل الجسيم من حالة تراكب غير محددة إلى حالة واحدة.

  • التشابك الكمي: جسيمان مرتبطان رغم البعد، حيث قياس أحدهما يحدد لحظياً حالة الآخر (أطلق عليها أينشتاين "تأثير شبحي عن بعد").


التجارب التي حيرت العقول

يشرح روفيللي التجارب المؤسِّسة التي كشفت غرابة عالم الكم، مركزاً على:

  1. تجربة الشق المزدوج (Double-Slit):

    • عند إطلاق الإلكترونات عبر شقين، تظهر على الشاشة نمط تداخل كأنها موجات.

    • لكن عند مراقبة الشق لمعرفة أي طريق سلك الإلكترون، يختفي النمط الموجي ويظهر سلوك جسيمات فقط!

    • السؤال المحير: كيف "يعرف" الإلكترون أنه مراقب فيغير سلوكه؟

  2. مفارقة إي بي آر (EPR) والتشابك:

    • جسيمان نشآ من مصدر واحد يصبحان "مشابكين". قياس خاصية في أحدهما (مثل الغزل) يحدد فوراً خاصية الآخر حتى لو فصلتهما سنوات ضوئية.

    • هذا ينتهك حدَّ سرعة الضوء حسب النسبية. هل هناك اتصال خفي؟ أم أن الواقع غير موضعي؟

  3. قطة شرودنغر: ذلك التجربة الفكرية الشهيرة حيث قطة مغلقة في صندوق مع مادة مشعة قد تكون حية وميتة في آنٍ واحد إلى أن نفتح الصندوق. يوضح روفيللي أن القطة ليست سخيفة بل تلمح لسؤال جوهري: متى وكيف ينهار التراكب؟


التفسيرات المتصارعة – من الغموض إلى التعدد

يستعرض روفيللي التفسيرات المتنافسة لميكانيكا الكم، موضحاً أن الرياضيات واحدة لكن المعنى مختلف:

  • تفسير كوبنهاجن (نيلز بور): الأكثر شيوعاً. لا وجود لخصائص قبل القياس. "الواقع" يُخلق بالملاحظة. لكن من هو "المراقب"؟ هل يحتاج وعياً؟ هذا يفتح الباب لأسئلة فلسفية شائكة.

  • تفسير العوالم المتعددة (إيفريت): كل نتيجة محتملة تتحقق في كون موازٍ. القطة حية في كون وميتة في آخر. يزيل العشوائية لكنه يطلب عدداً لا نهائياً من الأكوان غير المرئية.

  • نظرية دي بروجلي-بوم (المتغيرات المخفية): الجسيمات لها مواقع وسرعات محددة لكن توجِّهها "موجة دليل". نظرية حتمية لكنها معقدة وغير محلية.

  • التفسير العلائقي (روفيللي): هنا يقدم بديله. الخصائص (مثل موقع الإلكترون) ليست مطلقة. هي تظهر فقط في علاقة بين جملة كمومية (كالإلكترون) وجملة أخرى تقيسها (كجهاز أو حتى جسيم آخر). لا امتياز للمختبر أو الوعي. كل شيء نسبي للتفاعل.


جوهر الثورة – العالم كشبكة من العلاقات

يتعمق روفيللي في فلسفة التفسير العلائقي، جاعلاً منه قلب الكتاب:

  • نقد الجوهرية: الفيزياء الكلاسيكية (وحتى الفطرة السليمة) تفترض أن الأشياء لها خصائص جوهرية مستقلة (ككتلة الإلكترون أو لون الطاولة). الكم يكشف أن هذه لا معنى لها بمعزل عن السياق. الإلكترون ليس "هنا" أو "هناك" مطلقاً؛ له موقع فقط نسبة إلى شيء يتفاعل معه.

  • الواقع كعلاقات لا أشياء: الكون ليس مكوناً من "لبنات" مطلقة، بل من شبكة هائلة من الأحداث والتفاعلات التي تخلق خصائص الأشياء مؤقتاً. مثل العلاقة بين الأم والطفل: "الأمومة" ليست في المرأة وحدها ولا الطفل وحده، بل في العلاقة بينهما.

  • حل المفارقات:

    • التراكب: ليس غموضاً في الجسيم نفسه، بل يعكس عدم اكتمال العلاقة حتى تحدث تفاعل معين يحدد الخاصية.

    • التشابك: ليس اتصالاً خفياً، بل تعبير عن أن الخصائص مشتركة ومترابطة أصلاً في الجملة الواحدة حتى عند البعد. القياس على جزء يكشف فقط عن علاقة قائمة سابقاً.

"نحن وكل ما يحيط بنا... موجودون فقط في تفاعلنا مع بعضنا البعض" – روفيللي.


تداعيات فلسفية – من الكم إلى الوعي

يربط روفيللي بين رؤيته للكم ومواضيع أوسع:

  • الوعي والعلم الإدراكي: يرفض روفيللي أن يكون الوعي ضرورياً لانهيار الدالة الموجية (كما في بعض قراءات تفسير كوبنهاجن). الوعي نفسه قد يكون ظاهرة علائقية ناشئة عن تفاعل الخلايا العصبية. لا مركزية للإنسان في هذه الصورة.

  • حوار مع الفلسفة الشرقية: يجد روفيللي تشابهاً مذهلاً مع فلسفة ناجارجونا البوذية (القرن الثاني الميلادي) التي تنفي "الجوهر" المستقل (Śūnyatā – الفراغ) وتؤكد على التبعية المتبادلة لجميع الظواهر. العالم سلسلة من العلاقات المتشابكة بلا أساس مطلق.

  • العلم كمسعى علائقي: المعرفة العلمية نفسها ليست اكتشافاً لواقع مطلق، بل هي بناء نماذج فعالة في تفاعلنا مع الطبيعة. هذا لا يعني نسبوية، بل تواضع إبستمولوجي.


الفصل السادس: تقييم الكتاب وأهميته

يقدم "هيلجولاند" أكثر من شرح للكم؛ إنه دعوة لتغيير نظرتنا للوجود:

  • الإنجاز: يُعتبر الكتاب مدخلاً قوياً لغير المتخصصين، حاصلاً على تقييمات عالية (معدل 4/5 على Goodreads من آلاف القراء) 

  • . قوة روفيللي في تشبيهاته الفلسفية والأدبية (من ديمقريطس إلى ماخ إلى بوذا).

  • الانتقادات المحتملة:

    • بعض الفيزيائيين يرون التفسير العلائقي أحد النماذج وليس الحل النهائي (مشكلة القياس ما تزال موضع بحث).

    • أقسام الفلسفة قد تبدو مجازفة لبعض القراء العلميين الصارمين.

  • الخلاصة الأعمق: قيمة الكتاب تكمن في تحويل الكم من مصدر حيرة إلى مصدر إلهام. غرابته تذكرنا بأن الواقع أعمق وأغرب من إدراكنا المباشر، وأننا جزء من نسيج علائقي كوني هائل. هذا تحرير من الأنانية (حتى الأنانية الأنطولوجية!) ودعوة لتواضع معرفي.

"يجعل روفيللي تعلم ميكانيكا الكم تجربة شبه مهلوسة... يأخذنا في رحلة مدهشة عبر الكون لنفهم مكاننا فيه بشكل أفضل" – ملخص كتاب في PhilPapers.


استعارة هيلجولاند 

جزيرة هيلجولاند القاحلة ليست مجرد موقع تاريخي؛ هي استعارة للعقل البشري في مواجهة المجهول. مثل هايزنبرغ على صخرتها، نقف جميعاً على حافة محيط من الجهل، وقد تكون رؤية روفيللي – رؤية العلاقات المتشابكة كأساس لكل ما هو كائن – منارة تهدينا نحو فهم أعمق لواقع نشارك في صنعه بكل قياس وكل تفاعل. الكتاب ليس نهاية الطريق، بل دليل ملهم لرحلة الثورة الكمومية التي ما تزال مستمرة

إرسال تعليق

0 تعليقات