عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا

 

عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا

 "عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا" لأنيس منصور

يعد كتاب "عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا" للكاتب والفيلسوف المصري أنيس منصور، أكثر من مجرد سيرة ذاتية أو تأريخ لحقبة الرئيس جمال عبد الناصر.

 إنه دفاعٌ عن حقبة، وتحليلٌ لشخصية، ونقدٌ ذاتي لأمة، ورؤيةٌ مثقف عميق عاش تلك الأيام وعاصر رجالها وكان جزءًا من صانعي أحداثها. 

الكتاب ليس تمجيدًا أعمى، ولا هو تقريعٌ مجاني، بل هو محاولة لفهم ظاهرة عبد الناصر بعيدًا عن ضجيج المادحين والذامين، بعين الفيلسوف الذي يبحث عن الحقيقة وراء الأسطورة.

الفرضية الأساسية: افتراء الطرفين

يضع أنيس منصور نصب عينيه منذ الصفحات الأولى الفكرة المحورية للكتاب، والمتمثلة في عنوانه: هناك "مفترى عليه" و"مفترى علينا". 

الافتراء على عبد الناصر يأتي من خصومه الذين ركزوا على أخطائه فقط، مغفلين إنجازاته ومحاولة فهم سياقها. والافتراء علينا – كشعب عربي – يأتي من بعض المثقفين والكتاب الذين قدموا صورة مشوهة عن تلك الفترة، إما بدافع الكره أو بدافع السذاجة أو انعدام الرؤية، مما شوه وعينا الجماعي بتاريخنا.

يدفع منصور بأن تناول شخصية بحجم عبد الناصر يتطلب إنصافًا وموضوعية. فهو لم يكن ملاكًا طاهرًا، ولم يكن شيطانًا أجرب. كان إنسانًا، قائدًا سياسيًا، ارتكب أخطاءً كبيرة وحقق إنجازات ضخمة، وعاش في ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد.

عبد الناصر الإنسان والقائد

يستعرض أنيس منصور، من خلال ذاكرته الشخصية وملاحظاته المباشرة، جوانب من شخصية عبد الناصر الإنسانية التي قد تخفى على الكثيرين.

 يتحدث عن تواضعه غير المفتعل، وزهده في المظاهر الشخصية، وشعبيته الجارفة التي لم تكن مصنوعة أو مفتعلة بل كانت صادقة ونابعة من حب حقيقي. 

يروي مواقف صغيرة تعكس إنسانيته، مثل اهتمامه البالغ بأسر شهداء الحرب، ومتابعته لأدق التفاصيل في حياة الناس العاديين.

كقائد، يرى منصور أن أهم ما ميز عبد الناصر كان "الحلم". حلم بالوحدة العربية، بالكرامة الوطنية، بالاستقلال، بتحرير الإرادة المصرية من الهيمنة الأجنبية. هذا الحلم هو الذي جذب الملايين حوله، من المحيط إلى الخليج، وجعل منه رمزًا للعروبة في أزهى عصورها. كان يجيد مخاطبة الجماهير، وكان كلامه يمس شغاف القلب لأنه كان يعبر عن أمانيها العميقة.

الإنجازات والانتصارات

يخصص الكاتب مساحة كبيرة لإبراز إنجازات عصر ناصر التي يعتبرها أساس الدولة المصرية الحديثة، ومنها:

  • الاستقلال الكامل: وإنهاء الوجود العسكري البريطاني، وتأميم قناة السويس كقرار سيادي جريء.

  • العدالة الاجتماعية: قوانين الإصلاح الزراعي التي كسرت شوكة الإقطاع، وتوزيع الثروة بشكل أكثر إنصافًا.

  • البناء الداخلي: مشاريع الصناعة العملاقة (مثل الحديد والصلب)، وبناء السد العالي كأعظم مشروع قومي في القرن العشرين.

  • الكرامة الدولية: جعل مصر لاعبًا رئيسيًا في السياسة الدولية، وصاحب كلمة مسموعة في حركة عدم الانحياز.

  • دعم حركات التحرر: دعمه للشعوب العربية والأفريقية في نضالها ضد الاستعمار.

الأخطاء والمآخذ

ولكن أنيس منصور لا يتغاضى عن الأخطاء. بل إنه يناقشها بوضوح وبشجاعة، مع محاولة فهم دوافعها ونتائجها، وهو ما يفتقده الكثير من منتقدي ناصر. من أبرز هذه الأخطاء:

  • غياب الديمقراطية: تأسيس نظام حكم شديد المركزية، قائم على الحزب الواحد، وأدى إلى تقييد الحريات العامة وتغول أجهزة الأمن (ما عرف بمحنة السجون السياسية). يعترف منصور بهذا ويعدّه أحد أكبر المآخذ على تلك الحقبة.

  • التهور في بعض القرارات: ينتقد منصور بعض القرارات العسكرية والسياسية التي اتخذت بدافع العاطفة أو القراءة الخاطئة للموقف الدولي، دون حساب دقيق للعواقب.

  • الانهيار الاقتصادي: يذكر تبعات الحروب والتأميمات غير المدروسة على الاقتصاد، وما أدت إليه من مشاكل مثل التضخم وانتشار البيروقراطية.

  • فشو الواسطة والمحسوبية: على الرغم من شعارات العدالة، يرى أنيس منصور أن نظام الواسطة ("الواسطة شطارة") بدأ في الانتشار بشكل لافت في تلك الفترة.

الخاتمة: بين الحلم والواقع

يخلص أنيس منصور إلى أن يدة عبد الناصر كانت في الفجوة بين سعة حلمه وضيق أفق الواقع.

 لقد كان حلمه بالوحدة والحرية والاشتراكية أكبر من أن تستوعبه الظروف الإقليمية والدولية المعقدة، وأكبر من أن تتحمله مؤسسات دولة لا تزال فتية. كان مشروعه طموحًا جدًا، وتعثر في الطريق.

الكتاب في مجمله دعوة إلى الوعي النقدي. دعوة إلى أن ننظر إلى تاريخنا بمنظارٍ نقديٍ متوازن، لا نرفضه جملة وتفصيلًا لأننا نعاني من تبعاته، ولا نقدسه لأننا نحنكي عن ماضٍ جميل. إنه دعوة لفصل الشخص عن الظاهرة، وفصل الإنجاز عن الخطأ.

أنيس منصور لا يريد من القارئ أن يحب عبد الناصر أو يكرهه، بل أن يفهمه.

 أن يفهم كيف يصنع التاريخ، وكيف تتفاعل شخصية الفرد مع ظروف شعبه وأمته. الكتاب هو إعادة اعتبار للحقيقة التاريخية التي تقع دائمًا في المنطقة الرمادية بين الأسود والأبيض، وهي المنطقة التي يرفض الطرفان المتصارعان رؤيتها أو الاعتراف بها. 

وهو بذلك يقدم درسًا ثمينًا ليس فقط عن الماضي، ولكن عن كيفية قراءتنا لأي قائد أو أي حقبة في مستقبلنا

إرسال تعليق

0 تعليقات