كل شيء يتطور: لماذا يُفسر التطور أكثر مما نعتقد، من البروتينات إلى السياسة
"Everything Evolves: Why Evolution Explains More than We Think, from Proteins to Politics" لمارك فيليند
الكتاب والمؤلف
يقدم كتاب "Everything Evolves: Why Evolution Explains More than We Think, from Proteins to Politics" للعالم البيئي مارك فيليند (أستاذ علم البيئة في جامعة شيربروك وزميل الجمعية الملكية الكندية) رؤيةً ثوريةً لتطبيق نظرية التطور ما بعد نطاق البيولوجيا التقليدية.
يعتمد فيليند على فكرة أن التطور ليس حكراً على الكائنات الحية، بل هو عملية شاملة تفسر تغير الأنظمة المختلفة، من البروتينات إلى السياسات.
يستند الكتاب إلى أطروحة عالم الأحياء التطوري جراهام بيل حول وجود "علمين" فقط لفهم الكون: الفيزياء (العلم الأول) وعلم الأنظمة القابلة للتطور (العلم الثاني). يهدف فيليند إلى إعادة تصنيف المعرفة الأكاديمية لتعزيز مكانة "العلم الثاني" كركيزة أساسية موازيا للفيزياء .
التطور كـ"علم ثانٍ" مساوٍ للفيزياء
يجادل فيليند أن الكون يمكن فهمه من خلال علمين فقط:
العلم الأول (الفيزياء): يدرس الضرورة الفيزيائية والقوانين الحتمية (مثل الجدول الدوري للعناصر).
العلم الثاني (التطور): يدرس التاريخ التكراري الطوارئ، حيث النتائج تعتمد على ما سبقها، مما يؤدي إلى تنوع غير حتمي (مثل خنافس الروث والهواتف الذكية).
يؤكد فيليند أن الفيزياء غير كافية وحدها لشرح كيفية ظهور أشياء مثل الزرافات أو التقنيات الحديثة، لأنها نتاج عمليات تطورية تاريخية معقدة. وهذا يتحدى النظرة التقليدية التي تعتبر الفيزياء النموذج الأمثل للعلم.
آليات التطور المعمم: ما بعد النموذج الداروني
يشرح فيليند أن العمليات التطورية في أنظمة متنوعة (بيولوجيا، ثقافة، تكنولوجيا) تشترك في ثلاثة مكونات أساسية، لكنها لا تقتصر على النموذج الداروني التقليدي:
توليد التنوع (Variation): ظهور اختلافات جديدة (طفرات جينية، أفكار ثقافية، تصميمات تكنولوجية).
الوراثة (Inheritance): نقل هذه الاختلافات عبر الزمن (جينياً، تعليمياً، تقنياً).
النجاح التفاضلي (Differential Success): اختيار بعض الاختلافات بسبب ملاءمتها للبيئة أو الظروف.
يقدم فيليند فكرة "لوحة التحكم التطورية" (evolutionary soundboard) كاستعارة لفهم كيفية عمل هذه الآليات. تحتوي هذه اللوحة على "أقراص ضبط" يمكن تعديلها للتحكم في عوامل مثل مصدر التنوع (عشوائي vs. مقصود)، نوع الوراثة (عمودي vs. أفقي)، وكيفية قياس "الملاءمة" (fitness) التي قد تكون متعددة العوامل ومعتمدة على السياق .
على سبيل المثال، نجاح هاتف iPhone في السوق لا يعتمد فقط على تقنيته، بل على مزيج من السعر، التصميم، الوظائف، والصورة الذهنية للعلامة التجارية.
مقارنة بين خصائص "العلم الأول" و"العلم الثاني"
الخاصية | العلم الأول (الفيزياء) | العلم الثاني (التطور) |
---|---|---|
نطاق الدراسة | الضرورة الفيزيائية والحتمية (مثل الجدول الدوري) | التاريخ التكراري والعشوائية (مثل الكائنات الحية، اللغات، التقنيات) |
القدرة على التنبؤ | تنبؤات دقيقة وحتمية (مثل مدارات الكواكب) | تنبؤات محدودة due إلى التعقيد والاحتمالية والاعتماد على المسار |
الآليات الأساسية | قوانين ثابتة عالمية (مثل الجاذبية، الديناميكا الحرارية) | Variation, inheritance, differential success |
أمثلة | تركيب الذرات، الخواص الكيميائية | تطور اللغة، ظهور التقنيات، الانتخاب الطبيعي في الأحياء |
من الذكاء الاصطناعي إلى الاقتصاد
يقدم الكتاب أمثلة ملموسة على تطبيقات "العلم الثاني" في مجالات متعددة:
الذكاء الاصطناعي (AI): يشرح كيف أن خوارزميات التطور تُستخدم لتدريب الأنظمة على حل مشاكل معقدة. على عكس البرمجة التقليدية، حيث يكتب المبرمجون تعليمات محددة، فإن أجهزة الكمبيوتر في التعلم الآلي "تتطور" من خلال توليد عدد هائل من الحلول المحتملة، واختيار الأكثر فاعلية، وتكرار هذه العملية. هذا يشبه إلى حد كبير الانتخاب الطبيعي، حيث يتم "تربية" الخوارزميات لحل مشاكل مثل التعرف على الوجه.
الاقتصاد والتكنولوجيا: يشير فيليند إلى أن مفاهيم تطورية مثل الانتقاء والمنافسة كانت موجودة في الاقتصاد قبل أن يصفها داروين في البيولوجيا. تطور المنتجات مثل الهاتف iPhone أو آلة الكاتبة هو عملية تطورية من المحاولة والخطأ، حيث يتم طرح تصاميم متنوعة في السوق، ويتم "انتقاء" عدد قليل منها للنجاح علي قاعدة عوامل مثل الوظائف والتكلفة وتفضيلات المستهلك وليس بالضرورة لأنها "الأفضل" من الناحية الموضوعية.
اللغات والثقافات: تطور اللغات والممارسات الثقافية (مثل انتشار القيم الفردية) يخضع لنفس المبادئ. اسماء الأطفال، على سبيل المثال، قد تكتسب "لياقة" عندما تكون غير شائعة، ثم تفقد هذه اللياقة عندما تصبح مألوفة جداً، مما يؤدي إلى دورات من الشعبية.
التحديات العالمية: فهم العمليات التطورية crucial لمعالجة قضايا مثل نقاط التحول (tipping points) في انهيار النظم البيئية أو الاقتصادات، وكذلك لفهم وتيرة التغيرات في التنوع البيولوجي والثقافي على الأرض .
تجاوز "الإلهاء الدارويني" (The Darwinian Distraction)
إحدى النقاط البارزة في الكتاب هي دعوة فيليند إلى تجاوز ما يسميه "الإلهاء الدارويني".هو يؤكد أن داروين مع إنه عظيم، لكن حبس نظرية التطور في نموذج 'نيو-داروين' (اللي بيقول إن الطفرات عشوائية ومش محتاجة غير حاجات زى الجينات) بيوقف تطور نظرية التطور المعمم .
التركيز على القواسم المشتركة: بدلاً من الجدال حول ما إذا كان التطور الثقافي "داروينياً" بالضبط (مثلاً، بالبحث عن نظير للجينات في الثقافة)، يجب التركيز على العمليات الأساسية المشتركة (تنوع، وراثة، نجاح تفاضلي). لا يهم إذا كان توليد التنوع عشوائياً أم مقصوداً، أو إذا لم يكن هناك نظير تام للجينات .
انتهاك الافتراضات الداروينية: حتى داخل البيولوجيا، هناك حالات تنتهك افتراضات الداروينية الجديده الكلاسيكية. المثال المفضل لفيليند هو نظام CRISPR في البكتيريا، حيث تقوم البكتيريا "بإدخال" جزء من DNA الفيروس الذي يصيبها في جينومها، مما يوفر مناعة مستقبلية ضد ذلك الفيروس بالتحديد. هذه الطفرة ليست عشوائية فيما يتعلق بفوائدها، لكنها لا تزال عملية تطورية.
الحتمية مقابل الصدفة
يعترف فيليند بأن فكرة تقسيم العالم إلى "ضرورة فيزيائية" و"صدفة تطورية" ليست مثالية ويمكن مناقشتها:
من ناحية: إذا كانت الطبيعة تحكمها قوانين حتمية في المستوى الأساسي، فهل كل شيء (بما في ذلك التطور) كان حتمياً منذ الانفجار العظيم؟ هناك بالفعل بعض الحتمية في التطور: ديناميكا الموائع تفضل أن تكون الكائنات الطائرة مجنحة، والمبادئ الفيزيائية تحد من أطوال البشر والأشجار.
من ناحية أخرى: ميكانيكا الكم احتمالية في الأساس، والبنية واسعة النطاق للكون تحمل بصمة التقلبات الكمومية العشوائية. لذلك، هناك عنصر من الصدفة في كل شيء .
رغم ذلك، يظل إسهام فيليند مهماً في تذكيرنا بمدى قلة ما يمكن للفيزياء الأساسية تفسيره، أو أن تشرحه في المستقبل، حول تعقيد العالم من حولنا.
الدعوة لإعادة هيكلة التعليم والمعرفة
يدعو فيليند إلى إعادة هيكلة جذرية للمناهج الأكاديمية بناءً على هذه الرؤية. يقترح الاستغناء عن التقسيم التقليدي بين "العلوم الطبيعية" و"العلوم الاجتماعية"، وإنشاء كلية للعلوم الفيزيائية وأخرى للعلوم التطورية، حيث تضم الأخيرة تخصصات مثل علم الأحياء، التاريخ، اللغويات، العلوم السياسية، والاقتصاد .
ويرى أن عدم تدريس عمليات التطور للأطفال يحرمهم من فهم العمليات الأساسية التي لا تحكم الحياة فحسب، بل also الثقافات والاقتصادات وأنظمة التعليم التي يعيشون ويعملون فيها .
أهمية فهم التطور المعمم في الأنثروبوسين
يختم فيليند كتابه بالتأكيد على أن فهم التطور المعمم ضروري لمواجهة بعض أكبر تحديات الإنسانية الحالية في عصر الأنثروبوسين، مثل:
الذكاء الاصطناعي: لفهم كيف تتطور هذه التقنيات ونتائجها.
نقاط التحول: للتنبؤ (أو الاستعداد) لانهيار النظم البيئية أو المالية.
فقدان التنوع البيولوجي والثقافي: لفهم الأسباب والعواقب لهذه التغيرات.
التعليم: لمكافحة الجهود المستمرة في بعض الأماكن لإبعاد التطور من المدارس، مما يحرم الناس ليس فقط من فهم أصل الحياة، ولكن كذلك من فهم كيف أصبحت ثقافاتهم ولغاتهم وعاداتهم على ما هي عليه .
الكتاب ليس مجرد دعوة لتوسيع نطاق تطبيق نظرية التطور، بل هو محاولة طموحة لإعادة تعريف كيفية تنظيمنا للمعرفة العلمية نفسها، مشيراً إلى أن التطور، وليس فقط الفيزياء، هو أحد الركيزتين الأساسيتين لفهم عالمنا
0 تعليقات