Social Origins of Dictatorship and Democracy: Lord and Peasant in the Making of the Modern World
"الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية: الإقطاعي والفلاح في صنع العالم الحديث" لبارينجتون مور الابن
أهمية العمل وإطاره النظري
يُعد كتاب "الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية: الإقطاعي والفلاح في صنع العالم الحديث" (1966) للمفكر السياسي والاجتماعي الأمريكي بارينجتون مور الابن (1913-2005) أحد الأعمال المؤسسة في علم الاجتماع التاريخي والسياسي المقارن.
لا يقدم الكتاب مجرد سرد تاريخي، بل يحفر عميقاً في البنى الاقتصادية والطبقية والاجتماعية التي شكلت المسارات السياسية للدول الصناعية الكبرى
محاولاً الإجابة على سؤال مركزي: لماذا سلكت بعض المجتمعات طريق الديمقراطية الليبرالية، بينما انحرفت أخرى نحو الفاشية أو الشيوعية؟
رفض مور التفسيرات المبسطة التي تركز على "روح الشعب" أو العوامل الثقافية وحدها، أو التي تقدم نظرية حتمية أحادية المسار للحداثة.
بدلاً من ذلك، قدم تحليلاً مادياً صارماً، مقتفياً أثر التحالفات والصراعات بين الطبقات الاجتماعية الرئيسية – النبلاء الإقطاعيين (اللوردات)، والبرجوازية الناشئة، والفلاحين – خلال المرحلة الحاسمة من الانتقال من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي.
علم الاجتماع التاريخي المقارن
اعتمد مور منهجية مقارنة دقيقة بين حالات دراسية رئيسية: إنجلترا وفرنسا (كمسار ديمقراطي برجوازي)، واليابان وألمانيا (كمسار فاشي وراثي)، وروسيا والصين (كمسار شيوعي). كما أدرج تحليلاً للهند كحالة شاذة أو استثنائية، حيث تطورت ديمقراطية في مجتمع زراعي متخلف نسبياً.
لم يقم مور بمجرد مقارنة النتائج، بل قارن العمليات التاريخية. لقد حلل كيف أدت التحالفات الطبقية المختلفة، والتسويات، والثورات، والإخفاقات الثورية إلى نتائج سياسية متباينة. استخدم منهجية "الاختلاف" لجون ستيوارت ميل، حيث تبحث عن العوامل المشتركة في الحالات التي تشترك في نتيجة ما، والعوامل الغائبة في الحالات ذات النتائج المختلفة.
المسارات الثلاثة الكبرى للحداثة
1. المسار الديمقراطي البرجوازي: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة
يرى مور أن الديمقراطية لم تكن نتيجة حتمية، بل كانت نتاجاً لسلسلة معقدة من الأحداث والتحالفات الطبقية.
- إنجلترا (الثورة من فوق): يشدد مور على أن المسار الإنجليزي نحو الديمقراطية لم يكن ثورة برجوازية نقية كما صورها البعض.بدلاً من ذلك، كان تحولاً تدريجياً قاده تحالف بين "الإقطاعيين" (اللوردات) الذين تحولوا إلى رأسماليين (مثل تحول الأراضي إلى مراعٍ للأغنام لدعم صناعة الصوف) والبرجوازية التجارية الناشئة.أدت الحروب الأهلية والصراعات في القرن السابع عشر إلى إضعاف السلطة المطلقة للملكية وإنشاء برلمان قوي يمثل مصالح مالكي الأراضي والأثرياء.تم كسر قوة الطبقة الأرستقراطية التقليدية وتحويلها إلى طبقة رأسمالية زراعية. الأهم من ذلك، أن الثورة الزراعية التي سبقت الثورة الصناعية خلقت قاعدة اقتصادية وطبقية مستقلة عن التاج.لم يكن للفلاحين الإنجليز دور ثوري مستقل؛ فقد تم تدمير الفلاحين كطبقة تقليدية بفعل عملية "التسييج"، مما خلق طبقة عاملة حضرية وطبقة وسطى تجارية.
- فرنسا (الثورة من أسفل): على النقيض من إنجلترا، كان التحول الفرنسي إلى الديمقراطية أكثر عنفاً وثورية.يرجع مور ذلك إلى قوة واستمرارية النبلاء الإقطاعيين الذين قاوموا التحول الرأسمالي وأرادوا الحفاظ على امتيازاتهم التقليدية عبر استغلال الفلاحين.لم يتحالف النبلاء مع البرجوازية الصاعدة، بل وقفوا ضدها. هذا الخنق الذي فرضته الطبقة الأرستقراطية أدى إلى إحباط طموحات البرجوازية، مما دفعها إلى التحالف مع الجماهير الحضرية والفلاحية ضد النظام القديم.
هنا، لعب الفلاحون دوراً حاسماً. ثورة الفلاحين ضد الإقطاع هي التي خلقت الظروف لنجاز الثورة البرجوازية عام 1789. أدى العنف الثوري إلى تحطيم البنية الإقطاعية بشكل كامل وفتح الطريق أمام صعود البرجوازية والديمقراطية، وإن بعد صراعات طويلة.
الخلاصة المشتركة: في كلا الحالتين، تم تدمير أو تحييد قوة الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية التقليدية، وتحالفت البرجوازية مع قوى اجتماعية أخرى لخلق دولة حديثة. كان تدمير الأساس الاقتصادي للإقطاع شرطاً ضرورياً للديمقراطية.
2. المسار الفاشي أو الرأسمالية من فوق: ألمانيا واليابان
هذا هو أحد أكثر استنتاجات مور إثارة للجدل: الرأسمالية والديمقراطية ليستا توأمين.
ألمانيا (الثورة المحافظة): يجادل مور بأن ألمانيا فشلت في تطوير ثورة برجوازية على النمط الإنجليزي أو الفرنسي. بدلاً من ذلك، حدث تحالف ردعي بين النخب الإقطاعية (ملاك الأراضي اليونكر في بروسيا) والبرجوازية الصناعية الناشئة (التي كانت ضعيفة ومعتمدة على الدولة). خشيت البرجوازية من الطبقة العاملة المتصاعدة وفضلت التحالف مع "اللوردات" الإقطاعيين ضد "الفلاحين" والعمال، بدلاً من تحديهم. أدى هذا التحالف بين الحديد والراين (ملاك الأراضي والصناعيين) إلى تحديث اقتصادي قوي من فوق، تحت قيادة دولة بيروقراطية وعسكرية قوية (قيادة بسمارك)، ولكن مع الحفاظ على البنى السياسيةية شبه الإقطاعية والسلطوية. هذا المسار من التحديث دون ثورة برجوازية، ودون ديمقراطية، هو الذي مهد الطريق لاحقاً للفاشية النازية. لقد تم قمع الفلاحين والعمال، ولم تكن هناك قوة اجتماعية قادرة على تحدي تحالف النخب الحاكم.
اليابان (التحديث الإمبراطوري): يقدم مور تحليلاً مشابهاً لليابان. خلال عصر ميجي، لم تحدث ثورة برجوازية تقضي على الإقطاع. بدلاً من ذلك، قادت النخبة الإقطاعية الساموراي نفسها عملية التحديث من أجل الحفاظ على السلطة والاستقلال الوطني في مواجهة التهديد الغربي. قامت الدولة بقمع عنيف للفلاحين واستغلالهم، وتحالفت مع كبار الصناعيين (الزايباتسو) لخلق صناعة رأسمالية قوية ولكن تحت سيطرة الدولة والنخبة القديمة. مرة أخرى، أدى هذا التحالف بين النخبة التقليدية والرأسمالية الصناعية إلى تحديث اقتصادي ناجح، ولكن على أساس سياسي استبدادي وقمعي، انحدر في النهاية إلى الفاشية والعسكرة.
الخلاصة المشتركة: في المسار الفاشي، تتحد البرجوازية الضعيفة أو المتخوفة مع النخبة الإقطاعية القديمة ضد الجماهير (الفلاحين والعمال). يتم التحديث الاقتصادي دون تحول ديمقراطي، مما يؤدي إلى دولة صناعية قوية ولكنها سلطوية، تكون فيها الديمقراطية البرلمانية هشة ومهددة دائماً من قبل التحالف الرجعي بين كبار ملاك الأراضي والرأسماليين.
3. المسار الشيوعي: روسيا والصين
يقدم مور تحليلاً للثورات الشيوعية ليس كظواهر منعزلة، بل كنتيجة لفشل المسارين الآخرين.
- روسيا: فشلت روسيا القيصرية في تطوير تحالف برجوازي-إقطاعي قوي كما في ألمانيا، أو في إطلاق ثورة برجوازية كما في فرنسا. كانت الدولة القيصرية استبدادية وضعيفة، وتعتمد على قمع عنيف للفلاحين.كانت البرجوازية الروسية ضعيفة ومعتمدة على الدولة. لم يحدث تحديث زراعي حقيقي، وظل الفلاحون يعانون من استغلال إقطاعي شديد. هذا الخنق أدى إلى ثورة فلاحية هائلة لم تجد قيادة برجوازية لها، فقادها الثوريون البلاشفة.كان الفشل في حل "المسألة الفلاحية" وتحقيق تحول ديمقراطي برجوازي هو الذي مهد الطريق للثورة البلشفية. الثورة الشيوعية، في تحليل مور، هي ثورة الفلاحين التي تمت قيادتها وتوجيهها من قبل نخبة مثقفة ثورية في غياب بديل برجوازي.
- الصين: يشبه المسار الصيني المسار الروسي ولكنه أكثر وضوحاً. فشل النظام الإمبراطوري ثم النظام الوطني تحت قيادة تشيانغ كاي شيك في إجراء أي إصلاح زراعي جذري أو في تحدي قوة ملاك الأراضي الإقطاعيين.كان الفلاحون الصينيون يعانون من فقر واستغلال مروعين. لم تكن هناك برجوازية قوية أو مستقلة. في هذا الفراغ، قدم الحزب الشيوعي بقيادة ماو تسي تونغ برنامجاً للإصلاح الزراعي وحرباً شعبية جذبا الفلاحين.مرة أخرى، كانت الثورة الفلاحية هي المحرك، وتمت قيادتها نحو نتيجة شيوعية بسبب العجز التام للطبقات الحاكمة التقليدية والبرجوازية عن تقديم أي حل.
الحالة الشاذة: الهند
يخصص مور فصلاً للهند، التي تطورت فيها ديمقراطية على الرغم من عدم اكتمال التحديث الرأسمالي ووجود بنى اجتماعية تقليدية قوية (مثل نظام الطبقات). يفسر مور هذه "الشذوذ" بعدة عوامل:
تحالف تحت الاستعمار: أدى الاستعمار البريطاني إلى خلق تحالف غير مباشر بين كبار ملاك الأراضي (الزاميندار) والبيروقراطية الاستعمارية، مما منع تحالفاً بينهم وبين برجوازية محلية (التي كانت ضعيفة أصلاً). هذا حال دون ظهور مسار فاشي.
غياب ثورة فلاحية عنيفة: بسبب طبيعة النظام الاجتماعي المتشظي (الطبقات، الأديان، القوميات) وقيادة غاندي السلمية، لم تتطور ثورة فلاحية شاملة وعنيفة كما في الصين أو روسيا، مما حال دون المسار الشيوعي.
دور النخبة: قاد حركة الاستقلال وتحول ما بعد الاستقلال نخبة متعلمة تبنيت القيم الديمقراطية البرلمانية البريطانية وتمكنت من إدارة التنوع والصراع عبر المؤسسات الديمقراطية، وليس عبر القمع.
تحليل مور
التحالفات الطبقية: القوة الدافعة للتغيير ليست الطبقات بمفردها، بل التحالفات أو الصراعات بينها.
دور الفلاحين: الفلاحون ليسوا مجرد ضحايا سلبيين، بل هم فاعلون تاريخيون أساسيون. يمكن أن يكونوا وقوداً للثورة الديمقراطية (فرنسا)، أو يمكن قمعهم لخدمة التحديث الفاشي (اليابان)، أو يمكن أن يصبحوا قاعدة للثورة الشيوعية (روسيا، الصين).
الثورة البرجوازية: ليست حدثاً واحداً، بل عملية تاريخية طويلة لتحطيم السلطة الاقتصادية والسياسية للإقطاع.
التحديث من فوق: نموذج للتطور الرأسمالي تفرضه الدولة والنخب القديمة للحفاظ على سلطتها، على عكس التحديث القائم على الثورة من الأسفل.
العنف: يؤكد مور أن العنف كان أداة مركزية في جميع مسارات التحديث. فالديمقراطية لم تنتج عن التسويات السلمية وحدها، بل عن ثورات عنيفة وحروب أهلية حطمت البنى القديمة.
النقد والتأثير
رغم مكانة الكتاب كعمل كلاسيكي، إلا أنه لم يسلم من النقد:
التعميم المفرط: اُنتقد لتكبيره للتاريخ المعقد لدول كبرى في نماذج نظرية قد تتجاهل الفروق الدقيقة والتفاصيل المهمة.
إهمال العوامل الأخرى: ركز مور بشدة على العوامل الطبقية والاقتصادية، متجاهلاً إلى حد ما دور الأفكار، والثقافة، والديانات، والعوامل الدولية، والدور المستقل للدولة.
نظرة فرنسية مركزية: افتراض أن الثورة الفرنسية هي النموذج المعياري للثورة البرجوازية.
تحليل دور المرأة: غياب تحليل جاد لدور المرأة والصراعات الجندرية في هذه التحولات الكبرى، وهو نقد وجه لكثير من الأعمال الكلاسيكية في ذلك الوقت.
رغم هذه الانتقادات، يبقى تأثير الكتاب هائلاً. ألهم جيلاً كاملاً من العلماء، بما في ذلك ثيلما سكوكبول، وتشارلز تيلي، وإيمانويل والرشتاين.
قدم طريقة جديدة تماماً للنظر إلى التاريخ السياسي، ليس كقصة ملوك ومعارك، بل كقصة صراع طبقي وتحالفات اقتصادية عميقة.
الدروس المستفادة
يقدم كتاب مور دروساً عميقة لا تزال صالحة لفهم العالم المعاصر:
الديمقراطية ليست حتمية: ليست نتيجة تلقائية للتحديث الاقتصادي أو الرأسمالية. إنها نتاج هش لتحالفات طبقية وسياسية محددة وظروف تاريخية فريدة.
الخطر الدائم للاستبداد: يظهر تحليل المسار الفاشي أن الرأسمالية يمكن أن تتعايش بسهولة، بل وتتعزز، بواسطة أنظمة استبدادية، خاصة عندما تخاف النخب الثرية من التغيير الديمقراطي والعدالة الاجتماعية.
أهمية الإصلاح الزراعي: تشير الحالات الشيوعية إلى أن إهمال الريف واستغلال الفلاحين يمكن أن يخلقا برميل بارود ثوري.
الطبقات والتحالفات لا تزال مهمة: على الرغم من تعقيد المجتمعات الحديثة، فإن تحليل مور يذكرنا بأن فهم التحالفات بين النخب الاقتصادية والسياسية لا يزال مفتاحاً لفهم اتجاهات أي نظام سياسي.
في النهاية، كتاب "الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية" هو عمل ضخم ومتطلب
لكنه يقدم إطاراً لا غنى عنه لأي شخص يسعى إلى فهم الجذور العميقة للأنظمة السياسية التي نعيش في ظلها اليوم، محذراً إيانا من أن الطريق إلى الديمقراطية محفوف بالمخاطر وغير مضمون النتائج
0 تعليقات