أسطورة العجز: النظرية النقدية الحديثة ونشأة اقتصاد الشعب
"The Deficit Myth: Modern Monetary Theory and the Birth of the People's Economy" لستيفاني كيلتون
لماذا هذا الكتاب مهم؟
يعد كتاب "The Deficit Myth: Modern Monetary Theory and the Birth of the People's Economy" للاقتصادية الأمريكية ستيفاني كيلتون (أستاذة الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة ستوني بروك) من أكثر الكتب الاقتصادية تأثيرًا في السنوات الأخيرة.
نشر الكتاب في عام 2020، وأصبح على الفور من الكتب الأكثر مبيعًا وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، مما يعكس الجدل الكبير والأهمية التي يحظى بهما .
يدافع الكتاب عن نظرية النقد الحديثة (Modern Monetary Theory - MMT)، والتي تشكل تحديًا جذريًا للفهم التقليدي لمالية الحكومة والعجز العام والديون السيادية.
كيلتون، التي كانت كبيرة الاقتصاديين في لجنة الميزانية بمجلس الشيوخ الأمريكي (للأقلية الديمقراطية) ومستشارة اقتصادية للسيناتور بيرني ساندرز
تقدم حجة قوية مفادها أن المخاوف التقليدية بشأن عجز الميزانية والديون الوطنية مبالغ فيها بل و"أسطورية" في كثير من الأحيان، وأنها تعيق الحكومات عن معالجة القضايا الملحة مثل عدم المساواة والفقر والتغير المناخي ونقص الرعاية الصحية.
الأسطورة الأساسية - الدولة ليست كأسرة معيشية
التمييز بين مصدّر العملة ومستخدم العملة
جوهر نظرية النقد الحديثة، كما تشرحه كيلتون، يكمن في التمييز الجوهري بين مصدّر العملة ومستخدم العملة. الحكومات ذات السيادة النقدية (مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واليابان) هي مصدرة لعملتها الخاصة. فهي تمتلك الاحتكار القانوني لإصدار العملة (مثل الدولار الأمريكي). لذلك، لا يمكن لهذه الحكومات أن "تنفد" من أموالها بالمعنى الحرفي، حيث يمكنها دائمًا إنشاء المزيد من النقود إلكترونيًا (أو طباعتها) لتسديد مدفوعاتها.
في المقابل، الأسر المعيشية والشركات وحتى الحكومات المحلية (مثل حكومات الولايات والمدن الأمريكية) هي مستخدمة للعملة. يجب عليها كسب العملة أو اقتراضها قبل أن تتمكن من إنفاقها، وميزانياتها مقيدة بهذه العملة التي لا تستطيع إنشاءها بنفسها.
الأسطورة المركزية، وفقًا لكيلتون، هي أن الحكومة الفيدرالية يجب أن تدير ميزانيتها كما تدير الأسرة ميزانيتها المنزلية. هذا التشبيه خاطئ وخطير، لأنه يفرض قيودًا مالية مصطنعة على الحكومة ويمنعها من تنفيذ برامج اجتماعية ضرورية بحجة "عدم وجود أموال".
دور الضرائب: لماذا تجبى إذا لم تمول الإنفاق؟
إذا كانت الحكومة لا تحتاج إلى الضرائب لتمويل إنفاقها، فما هو دور الضرائب إذن؟ تقدم كيلتون أربعة أسباب رئيسية:
خلق الطلب على العملة: تخلق الضرائب طلبًا على العملة الوطنية، لأن المواطنين مطالبون بدفعها بهذه العملة. هذا يعطي قيمة "لورقة عديمة القيمة" في الأساس.
إدارة التضخم: تعمل الضرائب كأداة لسحب القوة الشرائية من الاقتصاد، مما يساعد في السيطرة على التضخم إذا أصبح الإنفاق الكلي (عام + خاص) مفرطًا.
إعادة توزيع الثروة والدخل: يمكن استخدام النظام الضريبي لتقليل عدم المساواة.
تثبيط أو تشجيع سلوكيات معينة: مثل فرض ضرائب على الكربون لتثبيط الأنشطة الملوثة للبيئة.
الرؤية التقليدية (التي تسميها كيلتون TAB(S) - Tax And Borrow then Spend) تفترض أن الحكومة يجب أن تجبي الضرائب وتقترض أولاً لكي تنفق. بينما الواقع، وفقًا لـ MMT، هو أن الحكومة تنفق أولاً (S(TAB) - Spend, then Tax And Borrow). الإنفاق الحكومي يخلق النقود أولاً، ثم يتم استخدام الضرائب والإقراض كأدوات لاحقة لإدارة الاقتصاد.
أسطورة التقشف و"المبالغة في الإنفاق"
القيد الحقيقي: التضخم وليس العجز
تؤكد كيلتون أن العجز بحد ذاته ليس دليلاً على المبالغة في الإنفاق. القيد الحقيقي على الإنفاق الحكومي ليس المال (الذي يمكن إنشاؤه) ولكن الموارد الحقيقية في الاقتصاد: العمالة، السلع، الخدمات، المواد الخام، الخ .
الإنفاق يصبح مشكلة ** only عندما يدفع الاقتصاد إلى ما بعد طاقته القصوى**، مما يتسبب في ارتفاع التضخم. إذا كان الاقتصاد يعمل below طاقته (معدل بطالة مرتفع، مصانع تعمل بأقل من طاقتها)، فإن العجز الحكومي يمكن أن يزيد الناتج الاقتصادي دون التسبب بالضرورة في تضخم مفرط.
سياسة الضمان الوظيفي الفيدرالي
كبديل لاستخدام البطالة كأداة لكبح التضخم (كما في نظريات مثل NAIRU)، تقترح كيلتون سياسة الضمان الوظيفي الفيدرالي. ستعلن الحكومة عن توفير وظيفة بأجر معقول (مقترح 15 دولارًا في الساعة) لكل شخص قادر وراغب في العمل ولكن لا يستطيع العثور على وظيفة في القطاع الخاص. لن يؤدي هذا إلى القضاء على البطالة غير الطوعية فحسب، بل سيعمل أيضًا كمانع استقرار اقتصادي تلقائي. خلال فترات الركود، يتم تسريح العمال من القطاع الخاص وينتقلون إلى برنامج الضمان الوظيفي، مما يحافظ على دخلهم ويستقر الطلب الكلي. أثناء الانتعاش، يترك العمال البرنامج للعودة إلى الوظائف الخاصة ذات الأجور الأعلى، مما يقلل من الإنفاق الحكومي تلقائيًا.
أسطورة أن العبء يقع على الجيل القادم
الدين الوطني كأصل خاص
أحد أكثر الانتقادات شيوعًا للعجز هو أنه "يُرهن مستقبل أطفالنا". تفند كيلتون هذه الفكرة بالقول إن الدين الوطني هو في نفس الوقت مسؤولية وأصل. عندما تصدر الحكومة سندات لتمويل العجز، فإن هذه السندات تصبح أصولًا مالية قيمة يحتفظ بها القطاع الخاص (الأفراد، صناديق التقاعد، البنوك، الخ ...) والبنوك المركزية الأجنبية.
لذلك، فإن الدين يمثل ثروة خاصة للمجتمع. سداد هذا الدين يعني سحب هذه الأصول من الاقتصاد، مما قد يكون له آثار انكماشية. العبء الحقيقي على الأجيال القادمة لا يحدده حجم الدين، ولكن بجودة وكمية الموارد المنتجة التي يرثونها (البنية التحتية، التعليم، التكنولوجيا، الخ ..).
مثال "سندات مواليد فترة الازدهار" (Boomer Bonds)
تقدم كيلتون مثالًا نظريًا: إذا أصدرت الحكومة سندات لتمديد مدفوعات لجيل "الطفرة السكانية" (Boomers)، وعند استحقاق هذه السندات بعد 40 عامًا، سيكون على الحكومة خيارات: رفع الضرائب (عبء على دافعي الضرائب المستقبليين)، طباعة النقود (مما قد يسبب التضخم وعبء على حاملي الأصول ذات القيمة الاسمية الثابتة)، أو التخلف عن السداد (عبء على حاملي السندات). لذلك، في جميع السيناريوهات، هناك تكلفة على * شخص ما * في المستقبل، لكن كيلتون تؤكد أن هذه التكلفة لا علاقة لها بالقيود المالية بل هي خيار سياسي حول كيفية الموارد.
أسطورة "إقصاء" القطاع الخاص
من "الإقصاء" إلى "الجذب"
يدعي النقد التقليدي أن العجز الحكومي "يبعد" (Crowds Out) الاستثمار الخاص. وذلك لأن الحكومة تقترض من سوق القروض المحدود، مما يتسبب في ارتفاع أسعار الفائدة، وبالتالي يصبح اقتراض القطاع الخاص أكثر تكلفة.
ترد كيلتون بأن هذا التحليل يتجاهل حقيقة أساسية: العجز الحكومي يخلق فائضًا في القطاع غير الحكومي. عندما تنفق الحكومة أكثر مما تجبي من ضرائب، فإن هذا العجز يضخ دولارات جديدة في حسابات البنوك الخاصة والشركات والأسر. هذا يزيد من المدخرات الخاصة ويمكن أن يؤدي في الواقع إلى خفض أسعار الفائدة (خاصة إذا قام البنك المركزي بدعم ذلك)، مما "يجذب" (Crowds In) الاستثمار الخاص بدلاً من أن يبعده.
أسطورة الاعتماد على الدول الأجنبية
الفائض التجاري كفائض في "الأشياء"
يتعلق هذا الجزء بالعلاقة بين المالية الدولية والعجز التجاري. يشعر الكثيرون بالقلق من أن تمويل العجز الأمريكي يتم عن طريق شراء الصين ودول أخرى لسندات الخزانة الأمريكية، مما يجعل الولايات المتحدة "معتمدة" عليهم.
تعيد كيلتون صياغة هذه العلاقة: عندما يكون لأمة ما عجز تجاري (مثل الولايات المتحدة)، فهذا يعني أنها تستورد سلعًا وخدمات أكثر مما تصدر.
بمعنى آخر، تحصل على فائض من "الأشياء" الحقيقية (سيارات، إلكترونيات، etc) بينما تحصل الدولة المصدرة (مثل الصين) على فائض من الأصول المالية الأمريكية (سندات الخزانة).
السؤال الحقيقي، وفقًا لكيلتون، هو ليس الاعتماد المالي، ولكن ما إذا كانت الدولة تستخدم هذه الموارد المستوردة بشكل منتج لبناء اقتصادها المستقبلي، أم أنها تستهلكها فقط.
أسطورة أزمة الالتزامات (كالضمان الاجتماعي)
القدرة على الدفع مقابل الالتزامات المستقبلية
يتم استخدام مخاوف العجز للتحذير من أن برامج مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية (Medicare, Medicaid) تتجه نحو "أزمة مالية" لا مفر منها
مع تقدم السكان في السن. الرد القياسي لـ MMT، كما تقدمه كيلتون، هو أن الحكومة التي تملك سيادة نقدية يمكنها دائمًا الوفاء بالمدفوعات المقومة بعملتها الخاصة. لا يمكن أن تكون هناك أزمة في القدرة على السداد.
ومع ذلك، هذا لا يعني أن هذه البرامج لا تنطوي على تكاليف. التحدي الحقيقي مرة أخرى هو التضخم والموارد الحقيقية. إذا زاد الإنفاق على الرعاية الصحية بشكل أسرع من قدرة الاقتصاد على توفير خدمات الرعاية الصحية (أطباء، ممرضات، مستشفيات، معدات)
فإن النتيجة ستكون تضخمًا في قطاع الصحة، وليس أزمة مالية. لذلك، يجب أن يركز النقاش على كيفية تنظيم وتوسيع قطاع الخدمات الحقيقية هذا لتلبية الاحتياجات الديموغرافية المستقبلية، وليس على كيفية "تأمين التمويل".
اقتصاد الشعب - العجوزات الحقيقية التي يجب معالجتها
الجزء الأخير من الكتاب هو دعوة للعمل. تؤكد كيلتون أن التحرر من "أسطورة العجز" يحررنا للتركيز على المشاكل الحقيقية والمجتمعية ("العجوزات") التي تواجه الأمة:
عجز الوظائف الجيدة: عدم كفاية الوظائف ذات الأجر اللائق والفوائد.
عجز الادخار: عدم قدرة العديد من الأسر على ادخار ما يكفي للتقاعد أو الطوارئ.
عجز الرعاية الصحية: عدم قدرة ملايين الأمريكيين على الوصول إلى رعاية صحية جيدة وبأسعار معقولة.
عجز البنية التحتية: تدهور الطرق والجسور وأنظمة النقل العامة.
عجز التعليم: ارتفاع تكلفة التعليم العالي ونوعية التعليم غير المتكافئة.
عجز المناخ: الفشل في الاستثمار الكافي في الطاقة الخضراء والمرونة البيئية.
عجز الديمقراطية: تأثير المال الكبير على السياسة وحرمان العديد من المواطنين.
تقترح كيلتون أن العجز المالي هو الحل وليس المشكلة عندما يتعلق الأمر بمعالجة هذه العجوزات. من خلال استخدام القوة المالية للحكومة بشكل استباقي، يمكننا تمويل الاستثمارات الضخمة اللازمة لبناء اقتصاد أكثر عدالة واستدامة يعمل لصالح الكثيرين وليس القلة فقط.
انتقادات ونقاط ضعف نظرية النقد الحديثة
على الرغم من الشعبية التي حصلت عليها MMT، إلا أنها تواجه انتقادات كبيرة من الاقتصاديين والتيار الرئيسي:
مخاطر التضخم والهايبرتينفليشن: النقد الأكثر شيوعًا هو أن MMT تقلل من خطر التضخم. يجادل النقاد بأن الإنفاق غير المقيد بقيود مالية سيقود حتمًا إلى ارتفاع التضخم، كما حدث في تجارب تاريخية مثل هايبرتينفليشن جمهورية فايمار أو زيمبابوي. قد تفقد الحكومة السيطرة على التوقعات التضخمية، وحتى قدرتها على فرض الضرائب، إذا انهارت ثقة الجمهور في العملة.
الاستقلالية السياسية للبنك المركزي: تدعو إلى إخضاع السياسة النقدية (التي يتحكم فيها البنك المركزي المستقل عادة) للسياسة المالية (التي يتحكم فيها السياسيون). يخشى النقاد من أن هذا سيؤدي إلى تسييس إصدار النقود ويجعل الاقتصاد عرضة لدورات الانتخاب قصيرة المدى، حيث يطبع السياسيون الأموال لتموع وعودهم الانتخابية دون اعتبار للتضخم طويل المدى.
التحديات العملية: حتى إذا قبلنا إطار MMT نظريًا، فإن التنفيذ العملي صعب. تحديد "الحد الحقيقي" للإنفاق قبل التسبب في التضخم هو أمر غير دقيق. كما أن إدارة برنامج ضمان وظيفي federalي على النطاق المقترح هي مهمة لوجستية هائلة.
القيود الدولية: تفترض MMT "سيادة نقدية" كاملة، ولكن في عالم معولم، يمكن أن تكون قرارات الحكومة عرضة لردود فعل السوق الدولية. إذا قام المستثمرون الأجانب ببيع أصولهم المقومة بالدولار بسبب مخاوف التضخم، فقد يؤدي ذلك إلى انخفاض قيمة العملة، مما يزيد من تكلفة الواردات ويساهم في مزيد من الضغوط التضخمية.
ثورة في التفكير الاقتصادي
يقدم كتاب "The Deficit Myth" تحديًا جذريًا للافتراضات الأساسية التي تحكم النقاش حول السياسة المالية منذ decades. سواء كان القارئ مقتنعًا بحجج كيلتون أم لا، فإن الكتاب ينجح في إجبارنا على إعادة التفكير في دور المال ودور الحكومة في الاقتصاد الحديث.
قوة الكتاب تكمن في قدرته على تبسيط مفاهيم معقدة وجعلها في متناول الجمهور غير المتخصص، وفي تحويل النقاش من الحديث عن "كيف سندفع الثمن؟" إلى الحديث عن "ماذا نريد أن نصنع مجتمع؟" وما هي قيمنا وأولوياتنا.
في النهاية، تؤكد كيلتون أن MMT ليست حكرًا على أي أيديولوجية سياسية. يمكن استخدامها لدعم إنفاق أكبر على الرعاية الصحية والتعليم (أجندة يسارية) أو على الإنفاق العسكري أو التخفيضات الضريبية للشركات (أجندة يمينية).
الجوهر هو أن الخيار هو سياسي في الأساس وليس ماليًا. التضخم، وليس العجز، هو القيد الحقيقي الذي يجب مراقبته وإدارته.
إن تحرير ourselves من "أسطورة العجز" لا يمنح الحكومة شيكًا على بياض، ولكنه يمنح المجتمع خيارات أكثر وأدوات أقوى لمواجهة التحديات الكبرى في القرن الحادي والعشرين وبناء ما تسميه كيلتون "اقتصاد الشعب
0 تعليقات