اقتصاد المدن

 

اقتصاد المدن

The Economy of Cities

 "اقتصاد المدن" لجين جاكوبس

 رؤية ثورية لأصل المدينة ودورها

تقدم جين جاكوبس في هذا الكتاب تحليلًا جذريًا يتحدى الأفكار التقليدية حول أصل المدن ودورها في الاقتصاد.

الفكرة المحورية التي تدور حولها هي أن المدن ليست نتاجًا للفائض الزراعي أو الاقتصادي، بل هي المحركات الأساسية والأولى للإبداع الاقتصادي والنمو على مر التاريخ. فبدلاً من اعتبار المناطق الريفية مصدر الثروة التي تغذي المدن، تقلب جاكوبس المعادلة وتؤكد أن الابتكار الحضري هو الذي يخلق الثروة وينشرها في الأرياف.

 تفنيد أسطورة الأولوية الزراعية

تهاجم جاكوبس المبدأ التقليدي القائل بأن تطور الزراعة هو الذي مهد لظهور المدن. 

وتستشهد بالأدلة الأثرية التي تظهر أن بعض أقدم المستوطنات البشرية، مثل كاتال هويوك في تركيا وجوبيكلي تبه في بلاد ما بين النهرين، كانت مراكزًا للتجارة والطقوس والابتكار قبل تطور الزراعة المنظمة.

 وترى أن الممارسات الزراعية الأولى (مثل تدجين الحيوانات وزراعة النباتات) قد تطورت داخل هذه المراكز الحضرية البدائية ثم "صُدرت" إلى المناطق المحيطة بها. وهكذا، فإن المدينة، في تصورها، هي من صنعت الزراعة وليس العكس.

آلية توليد "العمل الجديد" من "العمل القديم"

هذه هي الآلية الأساسية للنمو الحضري حسب جاكوبس. وتصوغها بالمعادلة: D + A = nD.

  • D (Division of Labour): تقسيم العمل القائم.

  • A (New Activity): نشاط جديد يضاف إلى العمل القديم.

  • nD (New Divisions): تقسيمات جديدة للعمل تنشأ نتيجة لذلك.

الأمثلة التوضيحية:

  • تطور صناعة حمالات الصدر من خلال مصممة أزياء حاولت تحسين تناسب فساتينها، فاخترعت منتجًا جديدًا أصبح صناعة مستقلة.

  • تطور الشرق اللاصق (سكوتش تيب) في شركة 3M من فشل محاولة لصنع غراء أقوى للصنفرة، مما أدى إلى ابتكار منتج جديد entirely different.

  • نشوء صناعة السيارات في ديترويت من ورش صغيرة كانت تنتج قطع غيار لمحركات القوارب ومطاحن الحبوب، حيث أضافت تدريجيًا أنشطة جديدة لتلبية احتياجات متطورة.

تكمن روعة هذه الآلية في أنها عفوية وغير مخطط لها، وتزدهر في بيئات حضرية غنية ومتنوعة.

محرك النمو: استبدال الواردات وتضاعف الصادرات

تحدد جاكوبس استبدال الواردات كأهم عملية اقتصادية تقود نمو المدن.

  1. تبدأ المدينة باستيراد سلعة معينة.

  2. يُظهر السوق المحلي الكبير طلبًا كافيًا يجعل الإنتاج المحلي لهذه السلعة مجديًا اقتصاديًا.

  3. تنشأ صناعات محلية لتصنيع هذه السلعة، مما يخلق وظائف جديدة ويحفز الاقتصاد.

  4. يؤدي الناتج المحلي إلى زيادة الدخل والطلب، مما يفتح الباب لاستيراد سلع جديدة (أكثر تطورًا) وتكرار الدورة.

مع تطور هذه العملية، تتحول بعض الصناعات المحلية الناجحة إلى صادرات، مما يولد تدفقات نقدية جديدة إلى المدينة ويخلق "أثر المضاعفة التصديري"، حيث يؤدي نمو الصادرات إلى نمو مضاعف في الاقتصاد المحلي بأكمله.

أهمية التنوع الاقتصادي ومخاطر الاحتكار

تؤكد جاكوبس على أن التنوع الاقتصادي هو سر قوة ومرونة المدينة. 

المدن التي تعتمد على صناعة واحدة أو شركة عملاقة واحدة (مثل مدينة تعتمد على مصنع واحد) هي مدن هشة، معرضة للانهيار عندما تتغير الظروف أو تتراجع تلك الصناعة.

مثال تحذيري: روتشستر وشركة إيستمان كوداك
عندما هيمنت كوداك على اقتصاد روتشستر، قامت بشراء الموردين ومنعت ظهور شركات جديدة منبثقة عنها. وعندما حل التصوير الرقمي محل الفيلم

 انهار الاقتصاد بأكمله لأنه لم يكن متنوعًا بما يكفي ليمتص الصدمة. وعلى العكس من ذلك، فإن المدن ذات القاعدة الاقتصادية الواسعة والمكونة من العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة تكون أكثر قدرة على التكيف والابتكار.

 توليد رأس المال وأهمية الشمولية

تجادل جاكوبس بأن رأس المال اللازم للتنمية يتولد داخل المدينة نفسها من خلال العمليات الاقتصادية النشطة، وليس من الخارج.

 والأهم من ذلك،تحذر من أن التمييز في الوصول إلى رأس المال والفرص (على أساس العرق أو الجنس أو الخلفية الاجتماعية) لا يظلم الأفراد فحسب

 بل يضر باقتصاد المدينة ككل، لأنه يحرمها من أفكار وطاقات وإبداعات جزء كبير من سكانها. فالمدينة التي تستثمر في جميع مواطنيها هي مدينة تطلق العنان لإمكاناتها الابتكارية بالكامل.

 الدروس المستفادة لمدن القرن الحادي والعشرين

رغم مرور عقود على نشر الكتاب، فإن أفكار جاكوبس لا تزال شديدة الأهمية:

  1. دعم الاقتصاد المحلي المتنوع: يجب على السياسات الحضرية أن تركز على تنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة المتنوعة بدلاً of جذب الشركات العملاقة بالإعانات.

  2. تشجيع الابتكار من الداخل: النمو الحقيقي يأتي من  السكان والمبدعين المحليين لحل مشاكلهم وخلق فرصهم الخاصة.

  3. المرونة عبر التنوع: مدن المستقبل هي تلك التي تبني اقتصاداتٍ مرنةً قادرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية والتكنولوجية.

  4. الشمولية الاقتصادية: ضمان وصول جميع أفراد المجتمع إلى رأس المال والفرص هو استثمار في ازدهار المدينة ككل.


تقييم :

قدمت جاكوبس رؤية مفعمة بالحيوية متفائلة للمدينة كمحرك لا ينضب للابتكار.

 ومع أن بعض آرائها التاريخية (أسبقية المدينة على الزراعة) لا تزال موضع جدل بين علماء الآثار، فإن تحليلها للعمليات الاقتصادية الحضرية الديناميكية قد أثر بعمق في مجالات التخطيط الحضري والاقتصاد التنموي. 

كتابها هو دعوة لإدراك القوة الخلاقة الكامنة في المدن والاستفادة منها لبناء اقتصادات أكثر حيوية واستدامة

إرسال تعليق

0 تعليقات