"ولكني أتأمل" لأنيس منصور: رحلة في دهشة الوجود والإنسان
يُعد كتاب "ولكني أتأمل" للكاتب والفيلسوف المصري الراحل أنيس منصور (1924 – 2011) واحداً من أبرز الأعمال التي تجسد روحه الفكرية وأسلوبه المميز.
ليس الكتاب مجرد مجموعة من المقالات أو الخواطر العابرة، بل هو رحلة فلسفية عميقة، ذهنية وروحية، يقودنا فيها المؤلف عبر دهشته الدائمة بالحياة، والكون، والإنسان، والوجود بكل ما فيه من غموض وجمال وتناقض.
يحمل القارئ بين دفتيه عصارة تجربة إنسان قضى عمره في القراءة، والسفر، والتأمل، والبحث عن أسئلة أكثر من البحث عن إجابات.
فلسفة الكتاب وعنوانه المفتاح
العنوان نفسه، "ولكني أتأمل"، هو بيان وموقف وجودي. كلمة "ولكني" توحي باعتراض على سيل الحياة الجارف، على السطحية، على الانسياق وراء الماديات واليوميات دون توقف.
إنها محاولة للتمرد على نمطية العيش بلا تفكير. "أتأمل" هي الفعل النشط الذي يقاوم به الكاتب هذا الجريان، فهو يوقف الزمن للحظة، ينظر إلى ما وراء الأشياء، يحاول اختراق الظاهر إلى الباطن، ويفكك المفاهيم المُسلّم بها.
الكتاب ليس بناءً منهجياً صارماً ككتب الفلسفة الأكاديمية، بل هو أقرب إلى "فلسفة الحياة اليومية".
أنيس منصور لا ينطلق من نظريات معقدة بقدر ما ينطلق من ملاحظات بسيطة لحظية: نظرة إنسان، صورة على حائط، قطعة موسيقى، حادثة في الشارع، ذكرى من الماضي، أو حتى حلم.
من هذه النقاط الصغيرة، ينسج خيوطاً من التأملات التي تصل إلى أعمق الأسئلة الوجودية.
المحاور والموضوعات الرئيسية في الكتاب
يمكن تلخيص أبرز القضايا التي يتناولها الكتاب في عدة محاور:
1. تأمل الوجود والكون:
يغوص منصور في أسرار الكون وعظمة الخلق، منطلقاً من إحساس عميق بالدهشة والعبادة. يتأمل في النجوم البعيدة، في قانون الجاذبية، في دقة تركيب الذرة، في معجزة الحياة نفسها.
يتساءل عن المطلق واللانهائي، وعن مكانة الإنسان في هذا الكون الشاسع. تأملاته هنا هي خليط من الفلسفة والعلم والإيمان، حيث يرى أن أعظم دليل على وجود القوة الخالقة هو هذا النظام المذهل والجمال الأخاذ المحيط بنا.
2. تأمل طبيعة الإنسان:
هذا المحور هو قلب الكتاب. أنيس منصور عاشق للإنسان ومحلّلٌ بارع لنفسيته المعقدة. يتأمل في مشاعر الحب، الكره، الغيرة، الطموح، الخوف، والوحدة.
يحلل التناقضات الكامنة في داخل كل منا: كيف يمكن للإنسان أن يكون ملاكاً وشيطاناً في آن واحد؟ كيف يبحث عن الحرية ويخاف منها؟ كيف يبني الحضارات وهو يحمل بذور تدميرها؟ ينظر إلى السلوكيات البشرية بعين الفيلسوف والطبيب النفسي، محاولاً فهم الدوافع الخفية وراء الأفعال الظاهرة.
3. تأمل في الزمن والذاكرة:
الزمن هو أحد هواجس أنيس منصور الأساسية. يتساءل عن طبيعته: هل هو خط مستقيم أم دائرة؟ كيف يختلف إحساسنا به؟ ولماذا تطير اللحظات السعيدة بينما تتجمد لحظات الألم؟ يرافق هذا تأمل عميق في الذاكرة، ذلك المتحف الغريب الذي يحتفظ ببعض التفاصيل التافهة ويمحو أحداثاً كبرى.
يتحدث عن الماضي ليس كشيء انتهى، بل ككائن حي لا يزال يسكننا ويشكل حاضرنا.
4. تأمل في الفن والجمال:
كإنسان مثقف وأديب، ينظر منصور إلى الفن على أنه أحد أسمى تجليات الروح الإنسانية. يتأمل في قدرة لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية على إثارة المشاعر واختراق حواجز اللغة والثقافة.
يرى في الجمال ضرورة حياتية، كالهواء والماء، وهو ليس ترفاً بل هو ما يجعل الحياة تستحق أن تُعاش.
5. تأمل في الغرائب والأساطير:
يستعير أنيس منصور ثقافته الواسعة في علم الأساطير والأديان المقارنة والظواهر الغريبة (الباراسيكولوجي) ليضيف بعداً آخر لتأملاته.
يتحدث عن الأحلام، التخاطر، التنويم المغناطيسي، وأساطير الخلق من مختلف الحضارات. لا يقدمها كحقائق مسلم بها، بل كمادة للتأمل وإثارة للفضول، مذكراً القارئ بأن هناك عوالم خارج نطاق إدراكنا المحدود.
6. تأمل في الواقع العربي والإنساني:
رغم طابع الكتاب الفلسفي، إلا أنه لا يغيب عن الواقع. يقدم منصور نقداً لاذعاً ولكنه هادئ للكسل الفكري، للتقليد الأعمى، وللانفصام بين ما ندعيه وما نفعله في مجتمعاتنا.
يتأمل في أسباب تقدم أمم وتأخر أخرى، مناقشاً قيم العمل، الإبداع، واحترام العقل.
الأسلوب الأدبي والفني لأنيس منصور في الكتاب
ما يميز "ولكني أتأمل" هو الأسلوب الساحر لأنيس منصور:
اللغة الشاعرية: لغته بسيطة عميقة، مشبعة بالصور البلاغية والاستعارات التي تجسد الأفكار المجردة وتجعلها حية وملموسة.
الجدل الذاتي: كثيراً ما يحاور نفسه بصوت عالٍ. يطرح سؤالاً، ثم يعترض على إجابته، ثم يطرح سؤالاً آخر. هذه الطريقة تجعل القارئ شريكاً في رحلة التأمل، لا متلقياً سلبياً.
خفة الظل والحكمة: يمزج بين العمق الفلسفي وخفة الظل. يستخدم الفكاهة والنكتة الذكية لتخفيف حدة الأسئلة الثقيلة، ثم يصفع القارئ بحكمة عميقة تتركه في صمت تأملي طويل.
الاقتباس والتناص: ينسج منصور نسيج كتابه من خيوط ثقافية متعددة، فيقتبس من الفلاسفة (مثل نيتشه وشوبنهاور)، والأدباء (مثل شكسبير وتولستوي)، والحكماء الشرقيين، وينقل قصصاً من تاريخ الحضارات، مما يثري ويوسع آفاق القارئ.
الدعوة إلى التوقف والتأمل
في النهاية، "ولكني أتأمل" هو أكثر من كتاب؛ إنه دعوة شخصية من أنيس منصور إلى كل قارئ. دعوة للتوقف عن الجري وراء الصغائر، لإعادة اكتشاف العالم من حولنا بعين طفلٍ يرى كل شيء لأول مره .
هو دعوة لإعمال العقل والقلب معاً، للشك من أجل الوصول إلى اليقين، وللاستسلام للدهشة كمدخل للمعرفة.
الكتاب لا يقدم حلولاً جاهزة، بل يمنح القارئ أدواتٍ للتساؤل. إنه يذكرنا أن الحياة ليست في الوصول إلى الإجابات النهائية، بل في متعة البحث
. يختم المرء قراءة هذا الكتاب وهو يشعر بأن عالمه الداخلي قد اتسع، وأن عينيه قد تفتحتا على تفاصيل كانت مخفية، وأن "ولكني أتأمل" قد أصبحت صوتاً داخلياً يرافقه، يحثه على أن ينظر إلى العالم ليس كما هو فحسب، بل كما يمكن أن يكون
0 تعليقات