"لعنة الفراعنة" لأنيس منصور
يعد كتاب "لعنة الفراعنة" للكاتب والفيلسوف المصري الراحل أنيس منصور واحداً من أشهر كتبه التي جمعت بين التشويق والفلسفة والبحث التاريخي الغامض.
لا يقدم الكتاب مجرد سرد لقصة لعنة توت عنخ آمون الشهيرة فحسب، بل يتعداها ليكون رحلة فكرية عميقة في أعماق التاريخ البشري، وحواراً بين الماضي والحاضر، وبين العلم والغيب، وبين المنطق والأسطورة.
بين الحقيقة والأسطورة
يبدأ أنيس منصور كتابه بتساؤل وجودي مثير: "هل تموت الحضارة؟". ينطلق من هذه النقطة ليبحث في سر بقاء الحضارة المصرية القدادة آلاف السنين، محفورة في الحجر والوجدان، بينما اندثرت غيرها.
يطرح فكرة أن هذا البقاء نفسه هو جزء من "اللعنة" أو "البركة"؛ فالعالم لم ينتهِ من مصر القديمة بعد، وما زال يسعى لفك ألغازها.
"لعنة الفراعنة" ليست مجرد لعنة مقبرة ملك صغير اسمه توت عنخ آمون، بل هي رمز لكل ما هو غامض وغير مفسر في هذه الحضارة. هي استعارة للصراع بين فضول الإنسان الحديث لمعرفة الماضي وبين الغموض المحيط بهذا الماضي الذي قد يحمي نفسه بطرق لا نعرفها.
اللورد كارنارفون وتوت عنخ آمون
يخصص أنيس منصور جزءاً كبيراً من الكتاب لسرد قصة اكتشاف المقبرة الأكثر شهرة في التاريخ بواسطة هوارد كارتر في عام 1922، برعاية اللورد كارنارفون.
يصف حالة الحماس العالمية التي صاحبت الاكتشاف، وكيف أن العالم وقف مبهوراً أمام كنوز لم يرها أحد من قبل، محفوظة كما هي منذ آلاف السنين.
ثم ينتقل إلى الجزء الأكثر تشويقاً: بداية موت الأشخاص الذين ارتبطوا باكتشاف المقبرة وفتحها.
يذكر الكاتب بالتفصيل قصة موت اللورد كارنارفون المفاجئ في القاهرة بسبب لدغة بعوضة تسببت في تسمم الدم، مصحوبة بحادثة انطفاء الأضواء في كل القاهرة في نفس لحظة موته، موت كلبه في إنجلترا في اللحظة ذاتها.
من هنا، تبدأ قائمة الموتى: يعدد أنيس منصور العديد من الشخصيات المرتبطة بالاكتشاف والذين لقوا حتفهم بطرق غامضة ومتتالية، مثل آرثر ميس (المساعد الرئيسي لكارتر)، وجورج جولد (الذي زار المقبرة)، وألفريد ريد (الذي صور المقبرة)، وغيرهم. هذا التسلسل في الموت هو ما أطلق عليه الإعلام اسم "لعنة الفراعنة".
التفسيرات: بين العلم والماورائيات
لا يكتفي أنيس منصور بسرد القصص الغامضة، بل ينقب بعقلية الفيلسوف الباحث عن الحقيقة. يقدم لنا مجموعة من التفسيرات المحتملة لهذه الظاهرة:
التفسير العلمي (البكتيريا والفطريات): أحد أبرز التفسيرات التي يطرحها هو وجود أنواع من البكتيريا والفطريات القديمة والعنيدة التي ظلت حبيسة المقابر لآلاف السنين.
عند فتح المقبرة، استنشقها الداخلون، مما تسبب في إصابتهم بأمراض رئوية قاتلة لم يكن الطب الحديث قادراً على التعرف عليها أو علاجها في ذلك الوقت.التفسير النفسي (الإيحاء والرهاب): يطرح الكاتب فكرة قوة الإيحاء. إن إيمان الشخص بقوة اللعنة وشدة خوفه منها يمكن أن يؤدي إلى نتائج نفسية-جسدية كارثية، تضعف جهاز المناعة وتجعله عرضة للأمراض، أو تؤدي إلى الموت أحياناً بسبب الخوف وحده.
التفسير الغيبي (الماورائيات): لا يستبعد أنيس منصور هذا الجانب تماماً. بفلسفته المميزة، يتساءل: من نحن حتى نقرر أن كل شيء يجب أن يكون له تفسير مادي؟ ربما كان القدماء المصريون يمتلكون علوماً لم نكتشفها بعد، أو طاقات روحية هائلة استطاعوا من خلالها حماية مقابرهم بطرق تتجاوز فهمنا المحدود. ربما كانت اللعنة تحذيراً حقيقياً مكتوباً على باب المقبرة: "سيذوب الموت بجناحيه من يحاول إزعاج سلام الفرعون".
الصدفة والإحصاء: يحلل الكاتب الأمر من منظور إحصائي. كم عدد الأشخاص الذين كانوا مرتبطين بالاكتشاف؟ وكم عدد الذين ماتوا في سنوات قريبة؟ ويشير إلى أن هوارد كارتر نفسه، الذي كان أول من دخل المقبرة ولمس محتوياتها، عاش حياة طويلة ومات لأسباب طبيعية، مما يضعف نظرية اللعنة.
رؤية أنيس منصور الفلسفية: لعنة المعرفة
يتجاوز الكتاب الحدث التاريخي نفسه إلى تأملات أنيس منصور العميقة. هو يرى أن "لعنة الفراعنة" الحقيقية هي لعنة المعرفة والفضول البشري.
إنها الرغبة التي لا تشبع في معرفة كل شيء، في انتهاك حرمات الموتى، في نبش القبور تحت شعار العلم والاكتشاف.
يتساءل: من الأكثر حقاً في اللعنة؟ من يبني مقبرة ليرتاح فيها إلى الأبد، أم من يأتي بعد آلاف السنين ليفتحها ويعبث بمحتوياتها ويخرج جثمان صاحبها ليعرضه في متحف؟
اللعنة، في رأيه، هي درس في التواضع للإنسان الحديث الذي يعتقد أنه أدرك كل شيء بالعلم والتكنولوجيا.
هي تذكير بأن هناك ألغازاً في الكون لا تزال أعظم منا، وأن الحضارات القديمة قد تكون فهمت أسرار الحياة والموت بشكل أعمق مما نتصور.
الغموض الذي لا ينتهي
يختم أنيس منصور كتابه بأن لغز لعنة الفراعنة سيظل قائماً. لن نستطيع إثباتها بشكل قاطع، ولن نستطيع نفيها بشكل مطلق.
هذا هو سر قوتها واستمرارها. لقد أصبحت جزءاً من التراث الإنساني وأسطورة تثري خيالنا.
الكتاب في مجمله ليس بحثاً تاريخياً جافاً، بل هو رحلة أدبية شيقة بلسان أنيس منصور السلس والساخر أحياناً، والمليء بالحكايات الجانبية عن الحضارة المصرية، وعن رحلاته وتأملاته.
إنه دعوة للقارئ للتفكير، للشك، للتساؤل، وليس للإيمان الأعمى. إنه يكرس فكرة أن بعض الأسرار أجمل حين تبقى أسراراً، لأنها تحافظ على فضولنا ودهشتنا أمام عظمة هذا العالم وعمق تاريخنا
0 تعليقات