علم النفس - قصة العقل البشري

علم النفس - قصة العقل البشري

 

علم النفس: قصة العقل البشري

 "Psych: The Story of the Human Mind" لبول بلوم

المقدمة: رحلة في عالم العقل البشري

يُمثل كتاب "Psych: The Story of the Human Mind" للعالم النفسي بول بلوم (Paul Bloom) مرجعاً شاملاً يستند إلى مساقه التمهيدي الشهير في علم النفس بجامعة ييل، الذي جذب أكثر من مليون طالب عبر نسخته الإلكترونية.

يهدف الكتاب إلى تقديم رحلة علمية عبر مراحل تطور فهم العقل البشري، بدءاً من الأسس البيولوجية وصولاً إلى القضايا المعاصرة مثل الصحة النفسية والتحيز السياسي.

 بلوم، وهو أستاذ في جامعة تورنتو وأستاذ فخري بجامعة ييل، يدمج بين الدقة الأكاديمية والقصص السردية الجذابة، مما يجعل العمل مناسباً للقارئ العام والمتخصص على حد سواء.


 الأسس البيولوجية والفلسفية للعقل

1. العقل ككيان مادي

يُجادل بلوم بأن "العقل هو الدماغ"، مدللاً على ذلك بحالات مثل فينياس غيج (Phineas Gage)، الذي تغيرت شخصيته جذرياً بعد تلف جزء من دماغه بسبب قضيب حديدي اخترق جمجمته .

 هذه الحالة تُظهر أن المشاعر والقرارات ليست نتاج "روح" غير مادية، بل نتاج نشاط الخلايا العصبية. 

بلوم يرفض الثنائية الديكارتية (فصل العقل عن الجسد)، ويؤكد أن العلوم العصبية الحديثة تثبت عبر تقنيات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أن كل تجربة واعية لها أساس مادي في الدماغ.

2. معضلة الوعي (The Hard Problem of Consciousness)

رغم التقدم العلمي، يقر بلوم بأن كيفية تحويل "كتلة رمادية مادية" إلى مشاعر مثل الحب أو الكراهية تظل أحد أعظم الألغاز الفلسفية، كما صاغها الفيلسوف ديفيد تشالمرز .

 هنا، يتجنب بلوم التبسيط المفرط، معترفاً بأن تفسير الوعي يتطلب جسراً بين البيولوجيا والفلسفة.


نظريات التكوين النفسي: من فرويد إلى علم النفس التطوري

1. إرث فرويد: القوة والخداع

يقدم بلوم نقداً لاذعاً لفرويد، مستشهداً بسيرته الشخصية التي وصفتها إحدى المراجع بأنه "كاذب، غشاش، متحرش بالأطفال، كاره للنساء" .

 رغم ذلك، يُبرز بلوم أن فكرة "اللاوعي الديناميكي" (Dynamic Unconscious) هي إسهام فرويد الأكثر ديمومة.

 فالكثير من سلوكياتنا، مثل النسيان المتعمد لموعد مهم أو الانجذاب العاطفي غير المبرر، تُظهر أن جزءاً كبيراً من العمليات العقلية يحدث خارج نطاق الوعي.

2. الفطرة مقابل التطبيق: ما الذي يولد معنا؟

يدحض بلوم فكرة "اللوح الفارغ" (Blank Slate) لجون لوك، مقدماً أدلة من دراسات على الرضع. ففي تجربة شهيرة، يُظهر رضيع عمره 5 أشهار دهشة عندما يرى دمى ميكي ماوس خلف حاجز ثم تُكشف ليجد 3 بدلاً من 2، مما يدل على قدرة فطرية على الحساب البسيط وإدراك استمرارية الأشياء (Object Permanence) 

. هذا يؤيد نظرية "الفطرية" (Nativism)، التي ترى أن المعرفة الأساسية مُشفرة في جيناتنا نتيجة التطور البيولوجي.


آليات الإدراك والذاكرة: بين العبقرية والهشاشة

1. الذاكرة: ليست مسجلاً أميناً

يُحذر بلوم من النظر إلى الذاكرة كـ "مسجل فيديو"، مستنداً إلى أعالم إليزابيث لوفتوس (Elizabeth Loftus). في إحدى تجاربها، تم زرع ذكريات كاذبة لأفراد مثل "الضياع في مركز تجاري" أو "سكب العصير على فستان العروس"، وصدقها 30% من المشاركين بعد تكرر الاستجواب .
هذه الهشاشة تُظهر أن التذكر عملية إعادة تركيب (Reconstruction) وليست استرجاعاً دقيقاً.

2. التحيزات المعرفية: لماذا نخطئ رغم ذكائنا؟

يشرح بلوم تناقضاً أساسياً في العقل البشري: قدرته على الإبداع العلمي مقابل ميله للتفكير غير العقلاني. ومن أمثلة ذلك:

  • تحيز التأكيد (Confirmation Bias): تفضيل المعلومات التي تدعم معتقداتنا الموجودة.

  • الانحياز المتوفر (Availability Heuristic): تقدير احتمالية الحدث بناءً على سهولة استدعاء أمثلة عنه، مثل الخوف من الطيران بعد حادثة إعلامية.
    بلوم يرى أن هذه التحيزات ليست "أخطاء" بل نتاج آليات تكيفية تطورت لاتخاذ قرارات سريعة.


القسم الرابع: العقل الاجتماعي: العلاقات، الفروقات، والأخلاق

1. تأثير المجموعة: من الطاعة إلى الوحشية

يستعرض بلوم تجارب كلاسيكية مثل دراسة ستانلي ميلغرام (Stanley Milgram) على الطاعة، حيث اضطر 65% من المشارك لـ "صعق" شخص حتى الموت (الممثل) بناءً على أوامر .
 هذه التجارب تُظهر كيف يمكن للضغط الاجتماعي تعطيل الضمير الفردي.

2. الفروقات الفردية: أسرار الشخصية

يشرح بلوم نظرية "الخمسة الكبار" (Big Five) للشخصية، وهي:

  1. الانفتاح على التجارب (Openness).

  2. الضميرية (Conscientiousness).

  3. الانبساطية (Extraversion).

  4. القبول (Agreeableness).

  5. العصابية (Neuroticism) .
    هذه السمات، التي تُقاس بمقاييس مثل "Big Five Inventory"، تتأثر بالجينات بنسبة 40–60%، لكنها قابلة للتعديل بالتجارب الحياتية.

3. الأخلاق: بين الفطرة والثقافة

يُفند بلوم فكرة أن الأخلاقية تُكتسب بالكامل من المجتمع، مشيراً إلى دراسات تُظهر أن الرضع بعمر 6 أشهر يُظهرون تفضيلاً للشخص "المساعد" في مشاهداتهم .
 لكنه يؤكد أن الثقافة تُشكل كيفية تعبير هذه الأساسيات الفطرية، مثل اختلاف مفهوم العدالة بين الثقافات الفردية والجماعية.


الصحة النفسية، السياسة، والسعادة

1. جدل الصحة النفسية: أين يبدأ "المرض"؟

يناقش بلوم إشكالية تعريف الاضطرابات النفسية، مستشهداً بحالات مثل "اضطراب الحزن الممتد" (Prolonged Grief Disorder). ينتقد بعض التحليلات التي تُقلل من شأن هذه الاضطرابات بحجة أنها "استجابة طبيعية لظروف قاسية"، قائلاً:

"حتى لو كان سبب الاكتئاب بيئياً بحتاً، فهذا لا ينفي كونه مرضاً، تماماً مثل السرطان الناتج عن مواد مسرطنة".

2. علم النفس والسياسة: لماذا نؤمن بنظريات المؤامرة؟

يحلل بلوم كيف تُغذي التحيزات المعرفية الانقسامات السياسية، مثل تبني نظريات مؤامرة مثل كيوآنون (QAnon). في دراسة ذُكرت بالكتاب، دعم أشخاص برنامجاً حكومياً ليس لفعاليته، بل لأنهم قيل لهم إنه "برنامج حزبي" يتبناه فريقهم السياسي.

3. السعادة: ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟

يستعرض بلوم عوامل السعادة المُثبتة علمياً، مثل:

  • العلاقات الاجتماعية العميقة.

  • الانخراط في أنشطة ذات معنى (وظيفة، تطوع، فناً).

  • تجنب المقارنة الاجتماعية.
    ويحذر من السعي وراء المتع السطحية، مثل الثراء المادي، الذي تأثيره على السعادة هامشي بعد تلبية الحاجات الأساسية.


 العقل قصة مستمرة

يختتم بلوم بالقول إن قصة العقل البشري هي "أهم قصة على الإطلاق" . 

رغم التقدم الهائل، يظل الكثير غامضاً، خاصة في مجالات مثل الوعي أو علاج الأمراض النفسية. لكن الجمال الحقيقي، كما يرى، يكمن في السعي المستمر لفهم أنفسنا، وهو سفر يجمع بين العلم، الفلسفة، والإنسانية.

"كلما نظرت إلى العقل البشري من منظور علمي جاد، أدركت تعقيده، تفرده، وجماله".


انتقادات وجدل حول الكتاب

  • نقد فصل الصحة النفسية: يرى الطبيب النفسي أويس أفتاب (Awais Aftab) أن بلوم بالغ في التركيز على "الدلائل الإحصائية" للاضطرابات، متجاهلاً السياقات الثقافية والتجارب السريرية التي تُظهر أن المعاناة قد تكون "طبيعية" في ظروف معينة لكنها تستحق العلاج.

  • إهمال السياق الاجتماعي: بعض المراجعات تشير إلى أن الكتاب يركز أكثر على العوامل البيولوجية الفردية، مع إهمال تأثيرات مثل الفقر أو التمييز على الصحة النفسية.

رغم ذلك، يظل الكتاب "مرجعاً أساسياً" – كما وصفتها الكاتبة الحائزة على بوليتزر جينيفر سينيور – لكونه يجمع بين الدقة العلمية، الحكمة، وخفة الظل

إرسال تعليق

0 تعليقات