ذاكرة الجسد

ذاكرة الجسد لأحلام مستغانمي

 

 "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي

تُعد رواية "ذاكرة الجسد" (1993) للأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي واحدة من أبرز الروايات العربية في نهاية القرن العشرين، ليس فقط لأنها باكورة أعمالها الروائية، بل لأنها كسرت نمطية الكتابة عن الحرب الجزائرية والتجربة الذاتية للمرأة العربية، من خلال مزجها العميق بين السياسي والعاطفي، العام والخاص، الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية لأمة.

تعمل الرواية على مستويين متوازيين: مستوى الحب العذري الممنوع واللوعة المستحيلة، ومستوى النقد السياسي والاجتماعي اللاذع للجزائر ما بعد الاستقلال، أو ما يُعرف بـ "الخيبة" و"المرارة" التي أعقبت التحرير.

العنوان والدلالة

يحمل العنوان "ذاكرة الجسد" إيحاءات عميقة. فالجسد هنا ليس مجرد كيان مادي، بل هو وعاء للذاكرة، حاملٌ لندوب الماضي وآلامه وأفراحه.
 ذاكرة الجسد هي الذاكرة الحسية التي لا تكذب، والتي تختزن رائحة الحبيب، دفء لمسة، ألم جرح، وهي أقوى وأبقى من ذاكرة العقل التي قد تضعف أو تُنسى.
 الجسد في الرواية هو الجزائر بجراحها، وهو جسد البطل المبتور، وهو جسد المرأة/الوطن الذي يُستباح ويُنهب.

الشخصيات الرئيسية: تماهي الحب والوطن

  1. خالد بن طوبال (الراوي): بطل الرواية الرئيسي وراوي أحداثها. هو مناضل سابق في ثورة التحرير الجزائرية، فقد ذراعه في المعركة وأصبح بعد الاستقلال رساماً مشهوراً.
    خالد هو رمز للجيل الثوري الذي قدّم أغلى ما يملك (أطرافه، شبابه) ثم وجد نفسه منزوياً على هامش الحياة في وطنه الجديد الذي سيطر عليه "الانتهازيون" و"أبناء الظلام" كما يسميهم.
     يعيش خالد أسير ذاكرته، حاملاً بين ضلوعه حباً قديماً لم يندمل، ومرارة من واقعٍ خانق. لوحاته الفنية هي محاولة لاستحضار الماضي وتخليد الذاكرة.

  2. حياة (أو نهار): حبيبة خالد منذ الصفوف الدراسية الأولى. هي ابنة الشيخ صالح، أحد رجال الدين المحافظين في قسنطينة.
    تمثل حياة الحب الأول البريء والممنوع. بسبب الظروف الاجتماعية والسياسية، تُفصل بينهما، وتهاجر عائلتها إلى المغرب ثم إلى باريس، حيث تتزوج من رجل ثري.
     اسمها "حياة" رمزي للغاية؛ فهي تمثل "الحياة" التي حُرِم منها خالد، الحياة التي قد تكون مختلفة لو لم تُسرق منه. هي أيضاً جزء من ذاكرة الجسد والوطن الذي فقده.

  3. زياد (الهادي): الابن الوحيد لحياة، والذي يلتقي بخالد في باريس مصادفةً. زياد هو شاب جزائري من الجيل الثاني من المهاجرين، يعيش أزمة هوية حادة؛ فهو لا يشعر بأنه فرنسي بالكامل ولا جزائري بالكامل.
     يبحث عن جذوره وانتمائه. علاقة زياد بخالد هي المحور الذي تدور حوله أحداث الرواية، حيث يصبح زياد الجسر الذي يعبر من خلاله خالد إلى ماضيّه، وإلى حياة.
     من خلال حكايات خالد، يحاول زياد فهم الجزائر التي لم يعرفها إلا من خلال قصص والدته.

استدعاء الماضي عبر الحاضر

تبدأ الرواية في باريس في الثمانينيات، حيث يقيم خالد لعرض لوحاته. هناك يلتقي بشاب جزائري يدعي زياد، يبدي إعجابه الشديد بلوحاته.
سرعان ما يكتشف خالد أن زياد هو ابن حبيبته القديمة حياة (نهار). هذه المصادفة تهز عالم خالد الراكد وتستفز ذاكرته، لتبدأ رحلة الاسترجاع (الفلاش باك) الطويلة.

من خلال حوارات خالد مع زياد، ومن خلال مونولوجاته الداخلية، نعود إلى قسنطينة في الخمسينيات والستينيات. نعيش قصة الحب الطفولي بين خالد ونهار، براءته، وخطورته في مجتمع محافظ. نرى كيف كانت الثورة الخلفية التي تجمع بينهما، وكيف كانت الأحلام المشتركة بجزائر حرة.

ثم ننتقل إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث تصطدم أحلام المناضلين بالواقع المر. فخالد، البطل المُشرّف، يجد نفسه عاطلاً عن العمل، مهمشاً، بينما يتربع على السلطة والثروة أولئك الذين لم يخوضوا غمار الحرب أو الذين خانوا الثورة من الداخل. هذه الخيبة هي جرح آخر ينضاف إلى جسده المبتور.

الرواية تتنقل ذهاباً وإياباً بين باريس الحالية وقسنطينة الماضي، بين صالونات الفن الباريسية وأزقة قسنطينة العتيقة، بين هدوء المنفى وصخب الذاكرة.

المضامين والثيمات الرئيسية

  1. الثورة والخيبة: هذا هو الموضوع المركزي في الرواية. تسرد مستغانمي قصة جيل كامل قدّم التضحيات ثم شعر بالغبن والخيانة.
     تُصوّر كيف تمت مصادرة ثورة التحرير من قبل "الانتهازيين" الذين استغلوا النضال ليعبّدوا طريقهم إلى السلطة والمال، تاركين المناضلين الحقيقيين في الظل. الرواية هي نقد جريء للفساد والبيروقراطية والاستبداد الذي ميز الحكم في الجزائر بعد الاستقلال.

  2. المنفى والهوية: تعالج الرواية معاناة الجزائري في المنفى (خالد الفنان، زياد الابن الضائع). المنفى ليس مكاناً فقط، بل هو حالة من الاغتراب عن الذات والوطن. تساؤلات زياد عن هويته تعكس أزمة الجيل الثاني من المهاجرين الذين يعيشون في حالة "بين بين".

  3. المرأة والجسد: جسد المرأة في الرواية (حياة) هو استعارة للوطن. فهو الجسد الذي يُحَب، يُرْغَب، يُحْمَى، ثم في النهاية يُستباح ويُهجر.
     حياة هي الجزائر الجميلة التي حُرم منها خالد، والتي سقطت في النهاية في يد آخرين (زوجها الفرنسي رمزياً للاستعمار الجديد أو للفساد). كما تنتقد الرواية بشكل لاذع الوضع الاجتماعي للمرأة والقيود المفروضة عليها.

  4. الذاكرة والنسيان: تطرح الرواية سؤالاً وجودياً: هل علينا التمسك بالذاكرة وألمها أم محاولة النسيان والمضي قدماً؟ خالد يختار أن يعيش في الماضي، أن يصوّر ذاكرته، أن يتعذب بها.
     بينما تحاول حياة (ناهار) الهروب من الماضي وبناء حياة جديدة. الرواية تستكشف ثقل الذاكرة وكيف أن الشعب الذي يفقد ذاكرته يفقد هويته.

  5. الفن كوسيلة للخلود: يجد خالد في الراحة ملاذاً وحيداً. لوحاته هي محاولة يائسة لتحويل الألم إلى جمال، ولتخليد لحظات الحب والثورة التي قد تنساها الأجيال الجديدة. الفن هو السلاح الوحيد المتبقي له ضد النسيان والضياع.

الأساليب الفنية

  • اللغة الشعرية: تتميز لغة مستغانمي بشاعرية عالية، مفعمة بالموسيقى والاستعارات والكنايات. اللغة هنا ليست وسيلة للسرد فقط، بل هي جزء من البنية الجمالية للرواية.

  • الرمزية: العمل غني بالرموز: الذراع المبتورة (تضحية الثورة، العجز، النقص)، قسنطينة (الوطن الأم، الجذور)، باريس (المنفى، الغربة، ولكن أيضاً الحرية الفنية)، اللوحات الفنية (الذاكرة المجسدة).

  • تقنية الاسترجاع (الفلاش باك): تعتمد الرواية بشكل كبير على هذه التقنية لنسج خيوط الماضي مع الحاضر، مما يخلق نسيجاً روائياً معقداً وغنياً.

  • الراوي العليم بضمير المتكلم: يروي خالد الأحداث بضمير "أنا"، مما يمنح القصة مصداقية عاطفية عميقة ويجعل القارئ يعيش معه آلامه وحسراته عن قرب.

 ذاكرة لا تنتهي

تنتهي الرواية دون حل تقليدي. تبقى علاقة خالد بحياة معلقة في فضاء الذاكرة. زياد، الجسر بين الماضي والحاضر، يبقى أيضاً حائراً في بحثه عن هويته. النهاية مفتوحة، يعكس طبيعة الأسئلة الوجودية التي تطرحها الرواية، والتي لا تمتلك إجابات سهلة.

"ذاكرة الجسد" هي أكثر من مجرد قصة حب. إنها مرثاة لجيل، ونقد لاذع لواقع مرير، وبحث عميق في هوية فردية وجماعية. إنها رواية عن كيف أن جروح الماضي لا تلتئم، وكيف أن للجسد ذاكرة خاصة به ترفض النسيان، محوّلة الألم إلى فن، والحب إلى أسطورة، والوطن إلى حنين لا ينقطع. من خلال هذه الرواية،  أحلام مستغانمي تعتبر نفسها واحدة من أقوى الأصوات وأكثرها تميزًا في الأدب العربي الحديث

إرسال تعليق

0 تعليقات