آه لو رأيت

 

آه لو رأيت

 "آه لو رأيت" لأنيس منصور: رحلة في دهاليز الموتى ولغز الحياة

 البوابة إلى عالم أنيس منصور الاستثنائي

يعد أنيس منصور (1924 - 2011) أحد أعمدة الفكر والأدب في العالم العربي، عُرف بثقافته الموسوعية التي تشرّبت من ينابيع الشرق والغرب، وبأسلوبه الساحر الذي يجمع بين العمق الفلسفي والبساطة الآسرة، والسخرية الممزوجة بالحكمة.

 لم يكن كاتبًا عاديًا، بل كان رحّالة في الجغرافيا والتاريخ والأفكار، يسعى دائمًا إلى طرح الأسئلة الكبرى التي تشغل البشر منذ فجر الوجود: من أين جئنا؟ ولماذا نحن هنا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟

ويأتي كتاب "آه لو رأيت" (الصادر في أواخر سبعينيات القرن الماضي) كواحد من أعظم ما كتب أنيس منصور وأكثرها جرأة وغموضًا. إنه ليس كتابًا يمكن تصنيفه بسهولة؛ فهو ليس رواية، ولا مجموعة مقالات، ولا دراسة أكاديمية.

 إنه مزيج فريد من كل هذا: رحلة فكرية، مغامرة فلسفية، تحقيق صحفي غامض، وسيرة ذاتية روحية. 

يدور الكتاب حول فكرة مركزية واحدة استهلكت جزءًا كبيرًا من حياة أنيس منصور: ظاهرة الحياة بعد الموت والتواصل مع العالم الآخر.

 السؤال الذي لا يغيب

ينطلق أنيس منصور في هذا الكتاب من سؤال وجودي مؤرِّق: ماذا يحدث بعد أن نغادر هذه الدنيا؟ هل هناك حياة أخرى؟ هل يمكن للحي أن يتواصل مع الموتى؟ وهو لا يطرح هذا السؤال كنظرة دينية بحتة أو كخرافة، بل يحاول أن يبحث عنه بإطارٍ عقلانيٍّ واستقصائيٍّ مثير للدهشة. 

لا يكتفي بأنيس منصور بالإيمان أو الإنكار، بل يقرر أن يخوض غمار هذه القضية كـ "محقق" يبحث عن أدلة وشهادات.

الكتاب هو بمثابة تقرير مُفصّل عن رحلته هذه، التي استمرت سنوات، لجمع الأدلة من كل مصدر ممكن: قراءات في الأديان والفلسفات، دراسات للظواهر الباراسيكولوجية (ما وراء النفس)، مقابلات مع علماء نفس، حوارات مع رهبان، وقصصًا حقيقية (يُزعم) عن أشخاص عاديين اختبروا تجارب الاقتراب من الموت أو تلقوا رسائل من عالم الأموات.

رحلة في عوالم متوازية

ينقسم الكتاب إلى فصول تتناول زوايا مختلفة من هذه القضية الشائكة، ويمكن تلخيص أبرز محاوره على النحو التالي:

  1. الشهادات الشخصية والتجارب الواقعية: يخصص أنيس منصور مساحة كبيرة لسرد قصصٍ قصيرة مروعة أحيانًا، ومثيرة للفضول أحيانًا أخرى. هذه القصص جمعها من أناس قابلهم أو من رسائل وصلته.
     نقرأ عن أم تسمع صوت ابنها المتوفى يناديها في الليل، عن رجل يعثر على رسالة مخبأة كان قد كتبها له صديقه قبل انتحاره، عن أشخاص يزورون أماكن في أحلامهم يكتشفون لاحقًا وجودها الحقيقي بعد سفرهم إلى بلاد لم يزوروها من قبل. كل قصة تقدم "دليلًا" ظاهريًا على أن الوعي قد يستمر بعد توقف الجسد.

  2. الحوار مع العلماء والمتخصصين: لا يبني أنيس منصور فرضيته على القصص فقط. إنه يحاول أن يجد سندًا علميًا، ولو كان هامشيًا. فهو يحاور أطباء نفسانيين عن حالات التنويم المغناطيسي حيث تبدأ (مرضى) تحت التنويم بالتكلم بلغات لم يعرفوها مطلقًا (ظاهرة "التهجئة بالألسنة" أو )، أو يتحدثون عن حيوات سابقة. يناقش نظريات علماء مثل "كارل يونغ" حول اللاوعي الجمعي وربما وجود ذاكرة كونية واحدة.

  3. الرحلات إلى معاقل الغموض: كان أنيس منصور مسافرًا لا يكل. يصف في الكتاب زياراته لأماكن ارتبطت بالغموض والروحانيات، مثل معابد التبت والهند، حيث التقى برهبان وزاهدين يمارسون طقوسًا قد تبدو خارقة للطبيعة. يحكي عن مناقشاته معهم حول مفهوم التحرر من الجسد وتجارب الخروج من الجسد .

  4. القراءات الفلسفية والدينية: يستعرض الكاتب معتقدات الديانات الكبرى (الإسلام، المسيحية، اليهودية، الهندوسية، البوذية) حول الحياة الآخرة، باحثًا عن نقاط التقاء بينها. كما يتوقف عند آراء الفلاسفة، من سقراط وأفلاطون الذين تحدثا عن خلود الروح، إلى الفلاسفة الماديين الذين أنكروا وجود أي شيء خارج نطاق المادة.

  5. التجربة الشخصية للكاتب: هذا بحسبه هو أهم عنصر في الكتاب. أنيس منصور لا يخفي نفسه خلف الموضوع. نحن نراه وهو يتأمل، يشك، يتردد، يفرح باكتشاف ما، ويخيب عندما يصل إلى طريق مسدود. نرى خوفه، فضوله، وحيرته. هذه الصدقية العاطفية تجعل القارئ شريكًا له في الرحلة، وليس مجرد متلقٍ للمعلومات.

الأسلوب الأدبي والفني للكتاب:

ما يميز "آه لو رأيت" ويجعله عملًا أدبيًا رفيعًا، ليس فقط فكرته، بل طريقة صياغته:

  • اللغة السلسة والشاعرية: يكتب أنيس منصور بلغة عربية فصيحة لكنها شديدة السلاسة والوضوح، بعيدة عن التقعير والتعقيد. يستخدم الاستعارات والتشبيهات الجميلة التي تجعل الأفكار المجردة قريبة إلى الذهن والقلب. عنوان الكتاب نفسه "آه لو رأيت" هو استعارة مليئة بالحنين والأسى والفضول.

  • الحوارية مع القارئ: أكثر ما يميز أسلوب أنيس منصور هو حديثه المباشر إلى القارئ. كأنه يجلس معك في غرفة ويحكي لك بأسلوب حميمي. يسألك: "ماذا كنت ستفعل لو؟"، "هل تعتقد أن هذا ممكن؟". هذه الحوارية تجذب القارئ وتشعره بأنه جزء من عملية البحث.

  • المزج بين الجد والهزل: رغم ثقل الموضوع، إلا أن أنيس منصور لا يخلو من روح الدعابة والسخرية اللطيفة، خاصة عندما يحكي عن بعض الشطحات أو الادعاءات التي يصادفها. هذه السخرية ليست برایئة، بل هي أداة للتوازن ولفت الانتباه إلى المغالطات أحيانًا.

  • الإيقاع السردي المشوق: الكتاب مكتوب كقصة تحقق بوليسي. يقدم لك "اللغز" أولاً، ثم يبدأ في سرد الأدلة واحدة تلو الأخرى، تاركًا لك مساحة للتفكير والتأمل قبل أن ينتقل إلى الدليل التالي. هذا يجعل الكتاب مشوقًا ويصعب على القارئ تركه.

الرسائل والمضامين الأساسية:

وراء قصص الأشباح والظواهر الغريبة، يختبئ عدد من الرسائل الإنسانية العميقة:

  1. الموت ليس النهاية، بل تحول أو انتقال: الفكرة الأساسية التي يريد أنيس منصور تمريرها هي أن الموت قد لا يكون ذلك الظلام الأبدي الذي نخشاه، بل بوابة إلى عالم آخر مختلف. هذه الفكرة، وإن كانت غير قابلة للإثبات، تقدم عزاءً نفسيًا هائلاً للقارئ، وتخفف من رهبة الفناء.

  2. اتساع أفق العقل البشري: الكتاب هو احتفاء بالعقل البشري وقدرته على طرح أسئلة تتجاوز حدوده المادية. هو دعوة لعدم حصر أنفسنا في العالم الملموس فقط، والانفتاح على احتمالات لا حصر لها.

  3. الحب هو أقوى الروابط: العديد من القصص التي يرويها تدور حول تواصل حدث بسبب قوة الحب بين الأم وابنها، بين الحبيبين، بين الأصدقاء. يشير إلى أن المشاعر الإنسانية العميقة قد تكون هي "القناة" التي تستطيع عبور حاجز العالمين.

  4. نقد الدوجماتية (العقائدية المتصلبة): أنيس منصور يهاجم، بلطف، المتشددين من كلا الطرفين: المتدينين الذين يرفضون أي نقاش في أمور الغيب، والعلمانيين الماديين الذين ينكرون أي شيء لا يمكن قياسه في مختبر. هو يدعو إلى عقلية منفتحة تبحث عن الحقيقة أينما كانت، دون قيود مسبقة.

النقد والجدل حول الكتاب:

بطبيعة الحال، كتاب مثل "آه لو رأيت" لا يخلو من الجدل:

  • من الناحية العلمية: يعتبره الكثير من العلماء والمشككين مجرد مجموعة من "الحكايات" والادعاءات غير الموثقة علميًا. فغالبية القصص تفتقر إلى الأدلة القاطعة التي يمكن اختبارها أو تكرارها في ظروف محكومة، وهي الشروط الأساسية للبحث العلمي.

  • من الناحية الدينية: انتقده البعض من زاوية دينية، معتبرين أن الخوض في مثل هذه الأمور هو من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وأن محاولة التواصل مع العالم الآخر قد تقترب من الممارسات محرمة في بعض التفسيرات.

  • الاستغلال التجاري للغموض: يرى نقاد آخرون أن الكتاب، رغم نوايا كاتبه الحسنة، يغذي سوق الخرافات والأوهام الذي يستغله المشعوذون والدجالون.

 لماذا يظل "آه لو رأيت" كتابًا خالدًا؟

بغض النظر عن مدى تصديقك لقصصه أو اقتناعك بفرضياته، يبقى "آه لو رأيت" عملًا أدبيًا وفكريًا فريدًا من نوعه. 

قيمته الحقيقية لا تكمن في تقديم إجابات قاطعة – فهو لا يفعل ذلك أبدًا – بل تكمن في قدرته على إثارة الفضول، وإعادة تشكيل نظرتنا إلى الموت والحياة، وتذكيرنا بضآلة معرفتنا جبهة إلى هذا الكون الشاسع.

أنيس منصور، في هذا الكتاب، لم يكتب عن الموتى، بل كتب عن الأحياء وخوفهم، وأملهم، وحيرتهم. كتب عنا نحن. إنه كتاب يلامس أعمق مخاوفنا وأعمق آمالنا في آن واحد. هو رحلة داخل النفس البشرية أكثر منه رحلة إلى عالم الأرواح.

لذلك، بعد أكثر من أربعة عقود على صدوره، لا يزال الكتاب يجد قراءه الجدد، لأن السؤال الذي يطرحه هو سؤال أبدي، والرحلة التي يدعونا إليها هي الرحلة الأبدية للإنسان الباحث عن معني ومعنى لوجوده.

 الكتاب هو صرخة إنسانية: "آه لو رأيت..." – تعبير عن فضول لا يُقهَر، ورغبة في المعرفة تتجاوز حدود الزمن والمادة. وهو بذلك، يختزل جوهر مشروع أنيس منصور الفكري والأدبي كله: البحث عن الجمال، والحقيقة، والمعنى، في كل مكان

إرسال تعليق

0 تعليقات