"شارع التنهدات" لأنيس منصور: رحلة في دهاليز النفس والعالم
يعد كتاب "شارع التنهدات" للكاتب والأديب الفلسفي أنيس منصور، أحد تلك الكتب التي لا تنتمي إلى تصنيف أدبي محدد، بل هي مزيج ساحر من الخواطر الفلسفية، والرحلات الجغرافية، والتأملات الوجودية، والسيرة الذاتية العفوية.
إنه ليس كتابًا عن مكان جغرافي محدد تحمل اسم "شارع التنهدات" في البندقية فحسب، بل هو رحلة داخل شارع التنهدات الخاص بكل إنسان، ذلك الشارع الذي تسكنه أحزانه، أسئلته، مخاوفه، ولحظات ضعفه وتأمله.
لمحة عامة: أكثر من مجرد رحلة
يدور المحور الظاهري للكتاب حول رحلة أنيس منصور إلى مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، وتحديدًا إلى "جسر التنهدات" (Ponte dei Sospiri)، الذي أطلق عليه أنيس منصور "شارع التنهدات" مجازًا.
كان هذا الجسر يربط بين قصر الدوج (مكان الحكم) وسجن الدولة في العصور القديمة.
وكان السجناء يعبرون من فوق هذا الجسر، وينظرون من خلال نوافذه الصغيرة إلى العالم الحر والجميل خارج السجن للمرة الأخيرة، فيطلقون تنهدات حزن وأسى على حياتهم التي فقدوها.
من هذه النقطة، ينسج أنيس منصور خيوط كتابه، ليس ليتحدث عن البندقية فقط، بل ليجعل من هذا الجسر استعارة لكل تنهيدة تخرج من صدر إنسان.
الأفكار والموضوعات الرئيسية:
التنهدات العالمية: أنيس منصور لا يتوقف عند تنهدات السجناء القدامى. بل يتساءل: أليست الحياة كلها سجنًا كبيرًا؟ أليس كل إنسان يسير في "شارع تنهداته" الخاص؟ ينطلق من البندقية إلى العالم، فيتحدث عن تنهدات العشاق، تنهدات الفلاسفة، تنهدات المبدعين، تنهدات الإنسان وهو يواجه مصيره المحتوم، الموت. يجعل الكاتب من التنهيدة لغة عالمية مشتركة يفهمها الجميع بلا ترجمة.
- الحب والجمال والمرأة: يحتفي الكتاب بالجمال كقوة عارض للقبح واليأس. وتمثل البندقية، بجمالها الساحر المعرض للغرق، رمزًا لهذا الجمال الهش والثمين.ويمتد هذا الاحتفاء ليشمل المرأة، التي يراها أنيس منصور مصدرًا رئيسيًا للإلهام والجمال والحب، ولكن أيضًا مصدرًا للتنهد والألم أحيانًا. ينسج حكايات عن حب قديم، عن علاقات عابرة، وعن علاقات إنسانية تترك أثرًا في النفس لا يُمحى.
الموت والوجود: كفيلسوف وجودي في الأساس، لا يمكن لأنيس منصور أن يغفل السؤال الأكبر: معنى الحياة في ظل حتمية الموت. تنهدات البشر، في رأيه، هي تعبير عن حيرتهم أمام هذا السر العظيم. يتأمل الموت ليس كخوف، بل كحقيقة تزيد من قيمة الحياة وتجعل كل لحظة جميلة تستحق التوقف عندها.
- الحضارة والزمن: يقارن أنيس منصور بحسه التاريخي بين الحضارات. يتنقل بين عظمة الحضارة المصرية القديمة، وجمال الحضارة الإغريقية، وروعة عصر النهضة الإيطالي، وصولاً إلى الحضارة المعاصرة.يتساءل عن إنجازات الإنسان وصراعه الأبدي مع الزمن الذي يبدد كل شيء. يشعر بالأسى أحيانًا على أحجار وشوارع شهدت عصورًا مجيدة وأصابها الإهمال.
- الرحالة والفضول الوجودي: يبرز الكتاب هوية أنيس منصور كـ "رحالة" بامتياز. ولكن رحلاته ليست للسياحة فقط، بل هي رحلات فكرية.كل مكان يزوره يفتح أمامه بابًا للتساؤل والمقارنة. نرى فضوله الذي لا ينضب وهو يحاول فهم طبيعة الناس في كل بلد، عاداتهم، طعامهم، طريقة ضحكهم وبكائهم. يجعل القارئ شريكًا في هذه الرحلة، وكأنه يسير بجانبه في شوارع البندقية الضيقة.
- الخواطر والأسلوب الأدبي: القوة الحقيقية للكتاب تكمن في أسلوب أنيس منصور السلس، العميق والساحر في آن واحد. الكتاب عبارة عن سيل من الخواطر المترابطة بطريقة النقابيه حرّة.فذكرة عن فيلم قديم تقوده إلى حديث عن الممثلة التي أصبحت أميرة، ثم إلى قصة عن الأميرات الحقيقيات، لينتهي به المطاف إلى تأمل في طبيعة السلطة والقوة. هذا الأسلوب يجعل القراءة مغامرة ممتعة، لا يمكن للقارئ أن يتنبأ بالمحطة التالية.
لماذا لا يزال هذا الكتاب مهمًا؟
أكثر من مجرد كتاب
"شارع التنهدات" ليس كتابًا يُقرأ وينسى. إنه كتاب للتأمل، للعودة إليه في أوقات الوحدة وأوقات التساؤل. إنه دعوة لإعادة اكتشاف العالم من حولنا، واكتشاف العالم داخلنا.
يدعو أنيس منصور القارئ إلى أن يكون هو نفسه رحالة في حياته، يبحث عن الجمال حتى في أصغر التفاصيل، ويتقبل تنهداته كجزء طبيعي من كينونته الإنسانية، دون أن يسمح لها أن تغرق قاربه في بحر من اليأس.
الكتاب هو رحلة إلى البندقية، ولكن الأهم من ذلك، هو رحلة إلى أعماق النفس الإنسانية، بكل ما فيها من تناقضات: حزن وفرح، حب وفقد، جمال وقبح، حياة وموت.
وهو بذلك يختصر رؤية أنيس منصور للحياة: رحلة عابرة، لكنها مذهلة، تستحق أن نتنهد لها، وأن نبتسم لها أيضًا
0 تعليقات