ملخص كتاب "الرئيس قال لي... وقلت أيضا" لأنيس منصور
لقاء العقلين على مائدة الحوار
يعد كتاب "الرئيس قال لي... وقلت أيضا" للكاتب والأديب الفلسفي الراحل أنيس منصور، أكثر من مجرد سرد لذكريات أو حوارات مع شخصية سياسية عظيمة.
إنه لوحة فكرية مرسومة ببراعة، تجمع بين عمق الفكر السياسي لرجل دولة من طراز فريد، هو الرئيس جمال عبد الناصر، ودهشة وأسئلة مثقف شغوف بالإنسان والمصير، هو أنيس منصور.
الكتاب ليس سيرة ذاتية ولا تاريخًا سياسيًا بحتًا، بل هو انعكاس لشخصيتين متناقضتين في المواقع، متقاربتين في حب الوطن والقلق على مصيره، تجلسان لتحاورا في كل شيء: من السياسة الدولية إلى صغائر الأمور، من الماضي السحيق إلى مستقبل غير مضمون.
ليست مذكرات، بل محاورات خالدة
يحرص أنيس منصور منذ البداية على توضيح أن هذا الكتاب ليس تسجيلًا دقيقًا لكل كلمة قالها الرئيس، فهو لم يكن يسجل بالأجهزة، بل كان "يسجل بقلبه وعقله وذاكرته".
هذه المقدمة (حاسمة) لفهم طبيعة الكتاب؛ فهو تأويل ذاتي للحوارات من قبل عقل كاتب وفيلسوف.
النصوص المباشرة قليلة، أما الغالب فهو استعادة للحوار، مخلوطًا بتأملات منصور الخاصة، وتحليله اللاحق للأحداث، ونقده الذاتي أحيانًا لأسئلته أو لردود الرئيس.
اللقاءات لم تكن مقابلات صحفية رسمية، بل كانت غالبًا في لحظات استرخاء، في المساء، على العشاء، أو خلال فترات راحة، مما منح الحوار طابعًا إنسانياً حميمياً نادرًا ما يُمنح لرجل في مثل هذا الموقف من القوة (مثل هذا المنصب القوي).
أسئلة المثقف وإجابات الرئيس
يتشعب الكتاب في موضوعات شتى، لكن يمكن تلخيص أبرز المحاور التي دار حولها الحوار:
الرئيس الإنسان: وراء القناع الرسمي
يكشف أنيس منصور جانبًا إنسانيًا عميقًا لعبد الناصر: رجل يخاف على أبنائه، يقلق على صحته، يحب القراءة بنهم (وخاصة التاريخ والسير الذاتية)، ويمتلك حس دعابة جافًا.
نراه يتساءل عن أشياء بسيطة، ويستمع بفضول لقصص منصور عن أسفاره. هذا التجسيد للإنسان (وراء الأيقونة) يزيل الهالة الأسطورية ليكشف عن بشر يتحمل عبءًا لا يُحتمل أحيانًا.السياسة الدولية: لعبة الشطرنج الكبرى
يحتل هذا المحور مساحة كبيرة. يناقش عبد الناصر بشفافية نادرة علاقته المعقدة بالقوى العظمى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. يشرح منطق تحالفاته، ليس كإيديولوجيا أعمى، بل كضرورة استراتيجية في عالم منقسم إلى قطبين.
ناقش أزمة السويس (العدوان الثلاثي) بتفصيل، مظهرًا ثقته العميقة بإرادة الشعب المصري كسلاح أخير انتصر به.
الحوارات عن إسرائيل والصراع العربي-الإسرائيلي كانت محورية، حيث يوضح عبد الناصر رؤيته الاستراتيجية للمعركة الطويلة.الداخل المصري: التحديات والطموحات
يتطرق الحوار إلى المشاريع القومية الكبرى مثل بناء السد العالي، الذي رآه عبد الناصر مشروع حياة لمصر، ليس فقط للكهرباء والري، بل للاستقلال الاقتصادي والسيادي.
ناقش التحديات الداخلية، الصعوبات الاقتصادية، وصراعه مع الإرث الثقيل للتخلف والإقطاع. هنا، يبرز إيمان الرئيس بقدرة المصريين على تحقيق المعجزات إذا وجدوا القيادة والحلم.الوحدة العربية: الحلم والواقع المر
كان حلم الوحدة العربية هو النجم القطبي الذي قاد سياسة عبد الناصر. في الحوارات، يعبر عن إيمانه الرومانسي أحيانًا بهذا الحلم، ولكن أيضًا عن خيبة أمله العميقة من الأنظمة العربية الأخرى، التي وصفها بالرجعية والمتآمرة.
يناقش بتأثر تجربة الوحدة مع سوريا (الجمهورية العربية المتحدة) وانهيارها، معترفًا بأخطاء وقعت لكن مؤكدًا على نقاء الفكرة وصحتها.حرب 1967: الجرح النازف
على الرغم من أن معظم الحوارات كانت قبل النكسة، إلا أن روح الهزيمة وخيبة الأمل تطغى على أجزاء من الكتاب، خاصة في تعليقات منصور اللاحقة.
يقدم عبد الناصر تبريرات لتحركاته العسكرية التي سبقت الحرب، معترفًا بثقة الجيش المفرطة التي قادت إلى الكارثة. قرار تنحيه عن الحكم بعد الهزيمة ثم عودته بعد المظاهرات المليونية، يظهر هنا ليس كمسرحية سياسية، بل كموقف إنساني صادق من رجل شعر بثقل المسؤولية وتحطم الحلم.
أسلوب أنيس منصور: المراقب المتأمل والصوت النقدي
قوة الكتاب لا تأتي فقط من شخصية عبد الناصر، بل من أسلوب أنيس منصور الأدبي الفريد.
فهو لا يقدم تقريرًا جافًا، بل يحلل، يتساءل، يعترض في صمت، ويتعاطف. لغته سلسة، مليئة بالاستعارات والأسئلة الفلسفية. يستخدم المفارقة أحيانًا، ويقارن بين ما قيل ثم وما حدث لاحقًا، مما يعطي القراءة بعدًا تراجيديًا أحيانًا.
منصور ليس مجرد ناقل أمين، بل هو طرف في الحوار حتى عندما يصمت. تساؤلاته الوجودية عن السلطة، المصير، والعلاقة بين الفرد والتاريخ، ترفع الكتاب من مستوى السرد السياسي إلى التأمل الإنساني العميق.
الخلاف الهادئ: حيث يختلف الكاتب مع الرئيس
من أكثر جوانب الكتاب صدقًا وإثارة، هي تلك اللحظات التي يسجل فيها منصور تحفظاته أو اختلافه مع الرئيس. كان يخالف عبد الناصر في نظرته إلى الديمقراطية الغربية، أو في تقييمه لبعض الشخصيات، أو في سياسة القمع الداخلي التي مارسها نظامه (مثل سجن المعارضين).
كان يفعل ذلك بأدب شديد، لكنه كان يسجله ليقول للقارئ: "كنت هناك، سمعت، ولكنني لم أوافق دائمًا". هذا يضفي مصداقية هائلة على الرواية، ويظهر شجاعة أدبية نادرة.
إرث من حوار وإنسان
"الرئيس قال لي... وقلت أيضا" هو أكثر من كتاب عن حقبة؛ إنه كتاب عن العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة.
عن ذلك الحوار الصعب الذي يجمع بين من يملك قوة التأثير المباشر (الرئيس) ومن يملك قوة التأثير غير المباشر عبر الكلمة (المثقف).
الكتاب لا يقدم لعبد الناصر صورة بطلة خالية من العيوب، ولا صورة شريرة، بل يقدم صورة إنسان معقد، طموح، مثالي أحيانًا، واقعي أحيانًا أخرى، حزين، واثق، ومنكسر.
صورة لا تنتمي إلى الأسود أو الأبيض، بل إلى كل ألوان الطيف الإنساني.
في النهاية، يبقى هذا الكتاب وثيقة أدبية وتاريخية فريدة، تقدم رؤية حميمة لواحدة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ العربي الحديث، من خلال عيون واحد من أبرع وأذكى كتاب العربية، الذي نجح في أن يوثق ليس فقط ما قيل، بل أيضًا ما لم يقل، وما دار في العقل والقلب أثناء الحوار
0 تعليقات