فلسفة النشوء والارتقاء

فلسفة النشوء والارتقاء - شبلي شميل

 

 "فلسفة النشوء والارتقاء" لشبلي شميل

 الأسس الفكرية وأثرها في النهضة العربية

سيرة شبلي شميل الفكرية

حياة المؤلِّف وتكوينه العلمي:

  • وُلِد شبلي شميل عام 1850 في كفر شيما (جنوب بيروت) ضمن أسرة مسيحية محافظة، وتخرَّج في الطب من "الكلية السورية الإنجيلية" (الجامعة الأميركية في بيروت) عام 1871 برسالة بعنوان "اختلاف الحيوان والإنسان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية" التي تضمَّنت بذور تأييده لنظرية داروين .

  • بعد دراسة الطب في باريس (1875-1876)، تأثَّر بفلسفة "لودفيغ بوخنر" المادية وتبنَّى أفكار داروين التطورية، ثم استقر في مصر حيث مارس الطب وأصدر مجلة "الشفاء" الطبية عام 1886 لنشر الثقافة العلمية.

  • واجه هجومًا عنيفًا من الأوساط الدينية (الإسلامية والمسيحية) بسبب دفاعه عن التطور والعلمانية، وحُكِم عليه بالإعدام غيابيًا من الدولة العثمانية عام 1916، وتوفي في القاهرة عام 1917 إثر نوبة ربو.

السياق الفكري لزمن التأليف:

  • صدر الكتاب أولاً عام 1884 تحت عنوان "شرح بخنر على مذهب داروين"، ثم أعيد نشره لاحقًا باسم "فلسفة النشوء والارتقاء".

  • كُتِب في فترة اشتداد الصراع بين الفكر التقليدي والحداثة العلمية في العالم العربي، حيث كان شميل أول مَنْ قدَّم نظرية التطور بشكل منهجي بالعربية.


الأطر النظرية والأسس الفلسفية للكتاب

مصادر شميل الفكرية:

  • تشارلز داروين: تبنَّى نظريته في الانتخاب الطبيعي وأصل الأنواع.

  • لودفيغ بوشنر: الفيلسوف الألماني الذي دمج المادية مع الداروينية، ورأى شميل أن التطور يشمل الجماد والكائنات الحية معًا.

  • هربرت سبنسر: طبَّق مبدأ التطور على المجتمعات الإنسانية (الداروينية الاجتماعية)، وهو ما تبنَّاه شميل جزئيًا.

المنهجية العلمية للكتاب:

  • الاستقراء التجريبي: اعتمد على الملاحظة المباشرة وتفنيد الخرافات بالحقائق (مثل تفنيده لنظرية "التوليد الذاتي" مستندًا إلى تجارب لويس باستور).

  • الربط بين التطور البيولوجي والاجتماعي: رأى أن قوانين التطور تحكم الطبيعة والمجتمع معًا، فـ"الجماد يتطوَّر إلى حي، والحي إلى إنسان، والمجتمع المتخلِّف إلى متحضِّر".

  • تمييز "العلوم الحقيقية": فصل بين العلوم القائمة على التجربة (كالأحياء والكيمياء) والمجالات غير القابلة للتجريب (كبعض الفلسفات والعلوم الدينية).


المحتوى العلمي والافتراضات الجوهرية

نقد نظرية الخلق المباشر:

  • هاجم فكرة "الخلق الفجائي" للكائنات، ووصفها بأنها "تفسير غيبي يعيق التقدُّم العلمي".

  • عارض الرأي القائل بـ"إنزال الله كائنات ابتدائية من السماء"، وعدَّ أصل الحياة نتيجة تفاعلات كيميائية أدَّت إلى نشوء "الكرية" (الخلية الأولى).

آليات التطور عند شميل:

  1. النشوء التلقائي: تكوُّن الكائنات الدقيقة من مواد غير حية تحت ظروف محددة.

  2. التحوُّل التدريجي: تطور الكائنات البسيطة إلى معقدة عبر تغيرات تراكمية.

  3. الصراع من أجل البقاء: بقاء الأكثر تكيفًا مع البيئة.

  4. الوراثة: نقل الصفات المكتسبة إلى الأجيال التالية (وهو مفهوم تجاوزه العلم لاحقًا بعد اكتشاف الجينات).

أدلته العلمية:

  • الأحافير: أشار إلى ندرتها كدليل على التحوُّل البطيء، وتوقَّع اكتشاف "حلقات وسيطة" بين الإنسان وأسلافه (كمتحجرات "نياندرتال" التي اكتُشفت لاحقًا).

  • التشريح المقارن: أوضح التشابه في تركيب الأعضاء بين الأنواع (كأجنحة الخفاش وأذرع الإنسان).

  • التوزيع الجغرافي: لاحظ اختلاف الكائنات في الجزر المعزولة عن القارات.


التطبيقات الفلسفية والاجتماعية للتطور

توسيع نطاق التطور:

  • الجمادات: رأى أن التطور لا يقتصر على الأحياء، بل يشمل الكون المادي (فالنجوم تتكوَّن وتتحوَّل).

  • اللغات: تطورها من البساطة إلى التعقيد كأعضاء الكائنات.

  • الأخلاق: عدَّها نتاجًا لتطور الغرائز الاجتماعية للإنسان.

المجتمع والدين:

  • العلمانية: دعا إلى فصل الدين عن الدولة والتعليم، معتبرًا الدين "عامل فرقة" يعيق التقدم.

  • نقد الاستبداد: ربط بين الاستبداد السياسي وانتشار الرياء الاجتماعي، قائلاً: "القوم الذين يستولي عليهم الرياء هم قوم لا يصدقون ولا يصدِّقون".

  • موقفه من الإسلام: رغم اتهامه بالإلحاد، أشاد بالقرآن لمرونته الاجتماعية، وامتدح النبي محمد في قصيدة شهيرة:

"رَجل الحِجا رَجلُ السياسَةِ والدها ... بَطل حليفُ النصرِ في الغاراتِ".

المرأة والتعليم:

  • دعا إلى تعليم النساء لكنه عارض مساواتهن بالرجع بيولوجيًا واجتماعيًا.

  • حذَّر من تأسيس كليات الآداب والفلسفة على حساب الكليات العلمية.


الجدل والأثر الفكري للكتاب

ردود الفعل المعاصرة:

  • الهجوم الديني: كفَّره عبد القادر القباني (رئيس بلدية بيروت) وهاجمه رجال الكنيسة والإسلام.

  • السجال مع الأفغاني: هاجمه جمال الدين الأفغاني واتهمه بالإلحاد، مما أجبر شميل على مغادرة طنطا إلى الإسكندرية.

  • التكفير والإعدام: أصدر جمال باشا "الجزار" حكمًا بإعدامه عام 1916.

الإرث الفكري والعلمي:

  • الريادة في التطورية العربية: يُعد أول مَنْ قدَّم النظرية بشكل منهجي، متجاوزًا الترجمة إلى النقد والتطوير.

  • تأسيس "الصحافة العلمية": عبر مجلة "الشفاء" وكتاباته في "المقتطف" و"الهلال".

  • التأثير في جيل النهضة: أثر على مفكرين مثل سلامة موسى (الذي شاركه في إصدار جريدة "المستقبل").

نقاط الضعف في ضوء العلم الحديث:

  • قبول "التوليد الذاتي": أيد فكرة نشوء الحياة تلقائيًا من الجماد، بينما بيَّنت تجارب "ميلر-يوري" (1952) أنها تتطلب ظروفًا كيميائية خاصة.

  • الوراثة الخاطئة: تبنَّى نظرية "الصفات المكتسبة" للامارك بدلاً من الوراثة الجينية (التي اكتشفها مندل لاحقًا).

  • الداروينية الاجتماعية: تبني تطبيق التطور البيولوجي على المجتمع أدى إلى تبرير العنصرية والاستعمار.


  أفكار شميل والعلم المعاصر


قضية علمية موقف شميل (القرن 19) العلم الحديث (القرن 21)
أصل الحياة نشوء تلقائي مباشر من الجماد تفاعلات كيميائية معقدة في "البركة البدائية"
الآلية التطورية الانتخاب الطبيعي + الصفات المكتسبة الانتخاب الطبيعي + الطفرات الجينية
دور الدين عائق للتطور العلمي بعض العلماء (كفرانسيس كولينز) يوفِّقون بينهما
الجماد والتطور يشمل التطور الجمادات يُستخدم مصطلح التطور للأحياء فقط

ملخصا

إسهامات شميل الخالدة:

  • دمج التطور بالحياة العربية: قدَّم أمثلة محلية من البيئة العربية (كالإبل والنخيل) لتقريب النظرية.

  • الدفاع عن حرية الفكر: جسَّد مقولته: "الحقيقة ما يُقال لا ما يُعلم" في تحديه للسائد.

  • التمهيد للعلمنة: ربط بين قبول التطور وتبني الدولة العلمانية.

التحديات المستمرة:

  • ما يزال الجدل حول التطور مستعرًا في العالم العربي، حيث تُدرَّس النظرية في مناهج بعض الدول (كالمغرب وتونس) وتُمنع في أخرى.

  • وفقًا لاستطلاع "نيتشر" (2020)، فإن 25% فقط من طلاب العلوم العرب يقبلون التطور كحقيقة علمية.

 لماذا نقرأ شميل اليوم؟
شبلي شميل ليس مجرَّد ناقل لنظرية داروين، بل هو نموذج للمفكر الشجاع الذي حوَّل العلم إلى مشروع نهضوي.
 كتابه "فلسفة النشوء والارتقاء" يدعونا إلى:

  • التحرر من "التابوهات" الفكرية.

  • تبني "العلوم الحقيقية" وسيلة للتقدم.

  • نقد التراث دون قطيعة معه.
    كما قال في إحدى رسائله:

"إن في القرآن مرونة تجعله صالحًا لكل زمان".
فهل نستطيع اليوم استكمال مشروعه بجعل التطور جزءًا من وعينا الجمعي؟

إرسال تعليق

0 تعليقات