عندما يتوقف النمو

المستقبل هو التنامي


 "المستقبل هو التنامي: دليل لعالم ما بعد الرأسمالية"

مقدمة: لماذا التنامي ضرورة ملحة؟

في عالم يتصارع مع أزمات متعددة متشابكة - من التغير المناخي والانهيار الإيكولوجي إلى التفاوت الاجتماعي والاقتصادي المتصاعد - يقدم كتاب "المستقبل هو التنامي: دليل لعالم ما بعد الرأسمالية" رؤية جذرية وشاملة لإعادة تخيل مستقبلنا الجماعي. 

كتب هذا العمل الثلاثي المؤلف: ماتياس شميلزر، وآرون فانسينتجان، وأندريا فيتر، ونشرته دار فيرسو في عام 2022، وهو يمثل مساهمة عميقة في الأدبيات المتزايدة حول الاقتصاد ما بعد النمو. يجادل المؤلفون بأن النمو الاقتصادي لم يعد حلاًاً للتحديات العالمية، بل أصبح جزءاً أساسياً من المشكلة ذاتها.

 من خلال تحليل نقدي متعدد الأبعاد، يطرح الكتاب إطاراً بديلاً يقوم على مبادئ العدالة الإيكولوجية والإنصاف الاجتماعي والتحول الديمقراطي.

يستند الكتاب إلى تراث فكري غني يمتد لنصف قرن، حيث يحاول توليف رؤى من مدارس فكرية متنوعة تشمل الاقتصاد الإيكولوجي، النسوية، ما بعد الاستعمار، والنقد الاشتراكي للرأسمالية. كما لوحظ بواسطه Parrique، فإن هذا الكتاب يمثل بالنسبة لحركة التنامي ما تمثله تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) بالنسبة للعلوم المناخية: فهو مراجعة شاملة لأفضل الأدبيات المتاحة حول هذا الموضوع .

 لا يقتصر الكتاب على تقديم نقد شامل للنمو، بل يتعداه إلى طرح رؤية بديلة وعملية لكيفية تحقيق تحول مجتمعي نحو اقتصاد لا يعتمد على النمو المستمر لاستقراره وازدهاره.

1 السياق التاريخي والنظري للنامي

1.1 الأصول الفكرية وتطور المفهوم

يؤرخ الكتاب لجذور مفهوم التنامي التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ مفكرون وناشطون في التشكيك في نموذج النمو الاقتصادي السائد ردا على أزمات بيئية واجتماعية متصاعدة. يشير المؤلفون إلى أن تقرير "حدود النمو" الصادر عن نادي روما في عام 1972 مثل لحظة محورية في بلورة الوعي بمخاطر الاستمرار في النمو الاقتصادي على كوكب محدود الموارد.

فإن جذور النقد أعمق تاريخياً، حيث يمكن تتبعها إلى تقاليد فكرية متنوعة تشمل اقتصاديات الحالة المستقرة لـ Herman Daly، ونقد التنمية من منظور ما بعد استعماري، والنسوية التي تسلط الضوء على علاقة النمو باستغلال العمل غير المأجور.

يشرح المؤلفون كيف أصبح النمو الاقتصادي بمثابة "فكرة مهيمنة" في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، حيث تحول إلى معيار أساسي لتقييم تقدم المجتمعات ورفاهيتها.

 يعتمد هذا الفصل بشكل كبير على عمل شميلزر السابق حول "هيمنة النمو"، موضحاً كيف أن فكرة النمو كضرورة مطلقة هي بناء اجتماعي تاريخي ظهر بشكل واضح في الخمسينيات من القرن الماضي، أي بعد عقدين من اختراع مؤشر الناتج المحلي الإجمالي .

 لم يكن النمو مجرد فكرة، بل أصبح أيضاً عملية اجتماعية ومادية عميقة تتجلى في علاقات القوة والهياكل المؤسسية التي تستند إليها المجتمعات الرأسمالية.

1.2 تعريف النمو: الأبعاد المتعددة

يتميز الكتاب بتحليله الدقيق ومتعدد الأبعاد لمفهوم النمو الاقتصادي، حيث يقدم إطاراً نظرياً يفسر لماذا يتجاوز النمو مجرد كونه زيادة في الناتج المحلي الإجمالي. وفقاً للمؤلفين، يتجلى النمو في ثلاثة أبعاد متشابكة:

  1. البعد الأيديولوجي: النمو كفكرة مهيمنة تقدم نفسها كضرورة طبيعية وحتمية وجيدة، مما يبرر علاقات القوة والتسلسلات الهرمية الموجودة في المجتمع الرأسمالي.

  2. البعد الاجتماعي: النمو كعملية اجتماعية تعمل على "تثبيت ديناميكي" للمجتمعات الحديثة، حيث يعمل الوعد بالنمو على تهدئة الصراعات الاجتماعية وخلق توافق في الآراء حول سياسات معينة.

  3. البعد المادي: النمو كعملية مادية تتمثل في التدفقات المتزايدة للطاقة والمواد التي تمر عبر المجتمعات - يتم استخراجها بشكل مفيد، وتوظيفها أو استهلاكها، وفي النهاية انبعاثها كنفايات.

 الأبعاد الثلاثة للنمو الاقتصادي 

البعدالتعريفالمظاهر
الأيديولوجيفكرة مهيمنة تقدم النمو كضرورة طبيعية وحتميةخطاب سياسي، إعلام، تعليم، "منطق الشائع"
الاجتماعيعملية تثبيت ديناميكي للمجتمعات الحديثةوعود بتحسين مستويات المعيشة، تخفيف الصراعات الطبقية
الماديالتدفقات المتزايدة للطادة والمواد عبر الاقتصاداستخراج الموارد، الاستهلاك، انبعاث النفايات

هذا التحليل متعدد الأبعاد مهم لفهم لمذا يتطلب تجاوز نموذج النمو تحولاً جذرياً وشاملاً لا يقتصر على تغيير المؤشرات الاقتصادية فحسب، بل يتعداه إلى إعادة تعريف المفاهيم الأساسية للتقدم والرفاهية، وإعادة هيكلة العلاقات الاجتماعية والمؤسسات التي تعتمد على النمو لاستقرارها.

2 النقد الشامل للنمو الاقتصادي

2.1 النقد الإيكولوجي: حدود الكوكب المادية

يبدأ المؤلفون بنقد إيكولوجي صارخ، arguing bahwa النمو الاقتصادي المستمر يتعارض جوهرياً مع الحدود الكوكبية والقوانين الأساسية للفيزياء.

 لا يمكن للنمو أن يستمر الي اأجل غير مسمي في نظام مغلق ذي موارد محدودة، حيث أن الاقتصاد العالمي هو  للنظام الإيكولوجي الأرضي الأوسع. حتى مع التحسينات في الكفاءة والتقنيات الخضراء، فإن الانزياح المطلق (absolute decoupling) - أي انفصال النمو الاقتصادي عن الآثار البيئية بشكل مطلق - يبقى هدفاً غير واقعي في اقتصاد قائم على النمو المستمر. 

يوضح الكتاب أن أي مجتمع يعتمد على معدل نمو مركب سيصل حتماً إلى حدود نهائية تظهر في شكل انهيار النظم الإيكولوجية المعقدة التي يعتمد عليها.

ينتج عن هذا النقد الإيكولوجي الدعوة إلى الكفاية (sufficiency) كبديل ضروري. الكفاية لا تعني التقشف أو الحرمان، بل تعني "تقليل استهلاك المواد الخام والطاقة والأرض مع الحفاظ على أساس الرفاهية" . 

هذا يتطلب إعادة تعريف مفاهيم الرفاهية والازدهار بعيداً عن النموذج الاستهلاكي السائد، نحو نماذج تعترف بالحدود الإيكولوجية وتعمل في إطارها.

2.2 النقد Socio-Economic: قياس ما يهم حقاً

يحلل الكتاب كيف أن النمو الاقتصادي، خصوصا كما يقاس بمؤشر الناتج المحلي الإجمالي، يقيس بشكل خاطئ حياتنا ويعيق تحقيق الرفاهية الحقيقية والمساواة للجميع. يعود هذا النقد إلى مفهوم Herman Daly عن "النمو غير الاقتصادي" (uneconomic growth) - ف beyond مستوى دخل معين، يصبح النمو مصدراً للتكاليف أكثر منه منافع. يشرح المؤلفون "مفارقة Easterlin" من خلال خمس خطوات:

 (1) الأكثر ليس دائماً أفضل،

 (2) السعادة تتحدد بمستويات الدخل النسبية (رفع الجميع لا يغير المواقع النسبية)،

 (3) الناتج المحلي الإجمالي مقياس ضعيف للرفاهية، 

(4) التحول النيوليبرالي في الثمانينيات قوض أسس الرفاه الاجتماعي، 

(5) الركود المزمن وارتفاع عدم المساواة يخنقان المنافع الجماعية للنمو.

هذا النقد Socio-Economic لا يرى في نهاية النمو الاقتصادي تهديداً، بل فرصة لأشكال جديدة من الرفاهية والحياة الجيدة للجميع. إنه يدعو إلى الهيدونية البديلة (alternative hedonism) - أي البحث عن أشكال من المتعة والسعادة لا تعتمد على الاستهلاك المادي المتصاعد، بل على علاقات إنسانية ذات معنى وأنشطة مُرضية لا تستهلك موارد كثيرة.

2.3 النقد الثقافي والنسوي: Beyond النزعة الاستهلاكية

ينتقد الكتاب كيف ينتج النمو الاقتصادي طرق عمل وعيش غريبة (alienating) وتدمر العلاقات بين البشر ومع الطبيعة. الحياة الصناعية الحديثة، برأي المؤلفين، تفقد الإنسان استقلاليته وتعمق شعوره بالاغتراب.

 أصبح مكان العمل مجالاً للاغتراب (خاصة لأولئك الذين لديهم "وظائف تافهه " حسب David Graeber)، وغُمر المستهلكون تحت سيل متوتر من الخيارات، مجردين من استقلاليتهم بسبب الإعلانات المنتشرة في كل مكان، وتحولت الثقافة ككل ببطء إلى منافسة متسارعة حول من يملك أكبر عدد من الأشياء (والذي، مرة أخرى، لا يجعلنا سعداء).

يرتبط بهذا النقد الثقافي، نقد نسوي قوي يسلط الضوء على كيف يعتمد النمو الاقتصادي على استغلال العمل غير المأجور وغير المعترف به، الذي تقوم به النساء بشكل غير متناسب في مجال الرعاية والإنجاب.

 يفترض منطق النمو أن هذا العمل "مجاني" ويمكن الاستمرار في استغلاله إلى ما لا نهاية. بالإضافة إلى ذلك، فإن النمو يعتمد على وتعيد إنتاج الثنائيات التراتبية (hierarchical dualisms) مثل العقل/الجسد، الثقافة/الطبيعة، الذكر/الأنثى، حيث يتم تثمين الجانب الأول وإساءة تقدير الجانب الثاني. 

يدعو هذا النقد إلى إعادة تقييم جذرية للعمل واعتماد أخلاقيات الرعاية (ethics of care) كأساس لتنظيم المجتمع، بدلاً من منطق السوق والتراكم.

 الأنواع السبعة الرئيسية لنقد النمو الاقتصادي 

نوع النقدالتركيز الرئيسيالمفاهيم البديلة المقترحة
الإيكولوجيتدمير الأسس الإيكولوجية للحياةالكفاية، الاستدامة Strong
الاجتماعي-الاقتصاديقياس خاطئ للرفاهية، عدم مساواةالهيدونية البديلة، مؤشرات بديلة
الثقافيإنتاج أنماط عيش وغربةالتآلف (conviviality)، الاستقلالية
النسوياستغلال العمل غير المأجور، تراتبية ثنائياتأخلاقيات الرعاية، إعادة التوزيع
نقد الرأسماليةاستغلال وتراكم رأسماليإلغاء علاقة الملكية، ديمقراطية اقتصادية
نقد التصنيعتقنيات غير ديمقراطية، هياكل صناعيةتقنيات تآلفية، تصميم ديمقراطي
نقد الجنوب-الشمالعلاقات استغلال واستخراج عالميةعدالة عالمية، إصلاح ديون، تعويضات

2.4 نقد الرأسمالية والعلاقات العالمية

يؤكد المؤلفون أن النمو الاقتصادي ليس مجرد سياسة محايدة يمكن تعديلها، بل هو ضرورة هيكلية للنظام الرأسمالي

يوضح النقد الرأسمالي كيف أن ملاك الرأسماليين يعيدون باستمرار استثمار الفوائض لتعظيم الأرباح، مما يسرع عجلة تراكم رأس المال وينتج المزيد من التدهور البيئي وعدم المساواة الأوسع. ما يسمى بـ "النمو" يعتمد على الاعتمادات العمل والطاقة غير المدفوعين من البشر والطبيعة غير البشرية - أي

"تراكم من خلال نزع الملكية" (التراكم عن طريق نزع الملكية) حسب ديفيد هارفي. "بدون مدخلات غير مدفوعة الأجر - سواء من الناس (العمل المنزلي غير مدفوع الأجر أو الاستغلال الاستعماري الجديد، ولكن أيضًا عمليات الإنقاذ العامة) والمواد الخام وطاقة الطبيعة - سترتفع تكاليف الإنتاج إلى حد كبير بحيث تنخفض الأرباح ويتوقف التراكم”.

يرتبط بهذا بشكل وثيق نقد الجنوب-الشمال، الذي يسلط الضوء على الطابع الاستعماري والإمبريالي للنمو الاقتصادي. لقد اعتمد ازدهار دول الشمال

 على استغلال موارد وطاقة وعمل دول الجنوب عالميا، مما خلق علاقات تبعية صارخة. 

يدعو هذا النقد إلى العدالة الإيكولوجية العالمية، والتي تتضمن الاعتراف بالدين الإيكولوجي والتاريخي للشمال وإصلاح علاقات القوة العالمية غير المتكافئة من خلال تعويضات وإلغاء ديون وإعادة هيكلة جذرية للتبادل غير المتكافئ.

3 رؤية التنامي: مبادئ ومقومات المجتمع البديل

3.1 التيارات المختلفة within التنامي

يعترف المؤلفون بأن التنامي ليس مفهوما شائعا ، بل هو إطار مفتوح ومتنوع يجمع بين تيارات فكرية مختلفة يحددون خمسة تيارات رئيسية مثل حركة التنامي:

  1. التيار المؤسساتي: يركز على إصلاح المؤسسات الاقتصادية والسياسية لتعمل بدون نمو، مثل إصلاح أنظمة المالية والنقود.

  2. تيار الكفاية: يؤكد على تبني أسلوب حياة بسيط طوعي وتقليل الاستهلاك الفردي والجماعي.

  3. تيار التشاركية/الاقتصاد البديل: يركز على بناء بدائل ملموسة هنا والآن، مثل التعاونيات، والعملات المحلية، وإحياء المشاعات (commons).

  4. التيار النسوي: يربط بين النقد البيئي والنقد النسوي، ويدعو إلى إعادة تقييم عمل الرعاية واعتماد أخلاقيات الرعاية.

  5. تيار ما بعد الرأسمالية والنقد العولمة: يربط النقد المحلي بالنقد العالمي، ويسلط الضوء على ضرورة تحول نظامي يتجاوز الرأسمالية والعولمة النيوليبرالية.

على الرغم من هذه الاختلافات، يرى المؤلفون أن هناك قواسم مشتركة كبيرة بين هذه التيارات تجعل منها "تيارات في تيار مضطربة، كل منها لها خصائصها الخاصة ولكنها تسير في اتجاهات مماثلة”.

3.2 المبادئ الأساسية لمجتمع التنامي

بناءً على هذه التيارات، يقترح المؤلفون تعريفاً  للتنامي كـ "عملية تحول ديمقراطية نحو مجتمع:

  1. يمكن تحقيق عدالة إيكولوجية عالمية - أي يتحول ويقلل  المادي، وبالتالي أيضًا الإنتاج والاستهلاك، بطريقة تجعل أسلوب حياته مستدامًا إيكولوجيًا على المدى الطويل وعادلًا عالميا.

  2. يعزز العدالة الاجتماعية وتقرير المصير ويسعى لتحقيق حياة جيدة للجميع في ظل ظروف هذا  المتغير.

  3. يعيد تصميم مؤسساته وبنيته التحتية بحيث لا تعتمد على النمو والتوسع المستمرين لأداء وظائفها".

هذا التعريف لا يركز على "التقلص" الاقتصادي كغاية في حد ذاته، بل كوسيلة ضرورية لتحقيق عدالة إيكولوجية واجتماعية. 

النقطة الثالثة أهمية، لأنها تشير إلى أن التحدي الرئيسي ليس فقط تقليل الاستهلاك، بل إعادة بناء المؤسسات الاجتماعية (مثل نظام المعاشات التقاعدية، والضرائب، والمالية، والتعليم) التي تم تصميمها لتعتمد على النمو لاستقرارها الشرعي ووظيفتها.

3.3 إعادة تصميم البنية التحتية والمؤسسات العقلية

يشدد الكتاب على أن التحول إلى مجتمع التنامي يتطلب أكثر من مجرد سياسات جديدة؛ فهو يتطلب إعادة تصميم البنى التحتية المادية (مثل أنظمة النقل، والطاقة، والإسكان) والمؤسسات الاجتماعية (مأنظمة الحماية الاجتماعية، والمالية، والتعليم) لجعلها غير معتمدة على النمو.

 على سبيل المثال، التحول من النقل المعتمد على السيارات الخاصة إلى النقل العام والمشي وركوب الدراجات، أو إصلاح نظام المعاشات التقاعدية ليعتمد على التضامن بين الأجيال بدلاً من عوائد الاستثمارات الناتجة عن النمو.

بالإضافة إلى ذلك، يتحدث المؤلفون عن ضرورة تغيير البنى التحتية العقلية (mental infrastructures) - أي الأفكار والقيم والتوقعات الاجتماعية العميقة التي تشكل كيفية رؤيتنا للعالم وموقعنا فيه. هذا متضمنا التحرر من فكرة Homo economicus (الإنسان الاقتصادي العقلاني الذي يسعى لتعظيم منفعته) وتبني هويات وقيم جديدة قائمة على التضامن، والاكتفاء، والترابط مع الطبيعة . 

كما يلاحظ Kallis، فإن البنى التحتية العقلية المتعلقة بالاستهلاك والتراكم والنمو تعتمد على الموقع والزمن التاريخي، وهناك أمثلة تاريخية عديدة لفهم شائع مختلف.

4 مسارات وسياسات تحقيق التنامي

4.1 حزم السياسات الست للتحول

يخصص الكتاب الجزء كاملاً لتوضيح كيف يمكن أن يعمل مجتمع التنامي عملياً، مقدماً ستة الفصل من السياسات والإصلاحات المتشابكة:

  1. دمقرطة الاقتصاد: تقوية المشاعات (commons)، والاقتصاد التضامني، والديمقراطية الاقتصادية من خلال تعاونيات العمال، والإدارة الذاتية، وتحويل ملكية الشركات إلى العمال.

  2. الأمن الاجتماعي وإعادة التوزيع: تطوير أنظمة حماية اجتماعية شاملة (مثل الدخل الأساسي الشامل أو ضمان العمل)، وفرض سقوف اعلي على الدخل والثروة، وفرض ضرائب تصاعدية قوية.

  3. التقنية التآلفية والديمقراطية: تعزيز تقنيات مناسبة، وقابلة للإصلاح، وموفرة للطاقة، وخاضعة للرقابة الديمقراطية، مع تقليل التقنيات الضارة وغير الديمقراطية.

  4. إعادة توزيع وإعادة تقييم العمل: تقليل ساعات العمل بشكل جذري بدون خفض الأجور، وإعادة توزيع العمل المأجور وغير المأجور (بما في ذلك عمل الرعاية)، وتحسين ظروف العمل.

  5. الهدم وإعادة البناء العادل للإنتاج: التفكيك التدريجي والعادل للقطاعات الضارة وغير الضرورية (مثل صناعة الوقود الأحفوري، والدعاية، والأسلحة، والطيران الخاص) مع تعزيز القطاعات المفيدة اجتماعياً (مثل الرعاية، والتعليم، والطاقات المتجددة المحلية).

  6. التضامن الدولي: الاعتراف بالدين الإيكولوجي والتاريخي لدول الشمال، ودفع تعويضات، وإلغاء الديون، وإعادة هيكلة مؤسسات الحكم لتعكس العدالة الإيكولوجية.

هذه السياسات لا يتم طرحها كوصفة one-size-fits-all، بل كإطار تتبناه المجتمعات محليا وتكييفه ديموقراطيا وفقاً لظروفها وثقافاتها الخاصة.

4.2 إعادة التفكير في العمل والتقنية

موضوع متكرر وهام في هذه السياسات هو إعادة التفكير الجذري في مفهوم العمل. يدعو المؤلفون إلى "تقليل جذري لساعات العمل دون خفض الدخل للفئات ذات الأجور المنخفضة؛ ووصول الجميع إلى عمل جيد وغير متواز وذو معنى؛ وتثمين العمل الإنجابي وعمل الرعاية وتوزيع هذا العمل بين الجميع؛ وتقرير المصير الجماعي في مكان العمل؛ وأخيراً، تعزيز حقوق العاملين واستقلاليتهم من خلال توفير خدمات أساسية، من توظيف الناس" .

 هذا يتعارض بشكل صريح مع منطق سوق العمل الرأسمالي، الذي يعتبر العمل مجرد مدخل إنتاجي يمكن استبداله وتكييفه طبقا ل متطلبات الربح.

بشكل مثل ، يدعو الكتاب إلى تقنية تآلفية (convivial technology) على غرار Ivan Illich - أي تقنيات تعزز الاستقلالية الذاتية للإنسان والإبداع والتعاون، بدلاً من تقنيات تجعل الإنسان مجرد ملحق للآلة. هذا يتطلب تصميم تقنيات روبوتات ، وقابلة للإصلاح، ومناسبة للاستخدام المحلي، وخاضعة للرقابة الديمقراطية. على سبيل المثال، الطاقات المتجددة اللامركزية بدلاً من أنظمة الطاقة المركزية الضخمة، أو الزراعة الإيكولوجية بدلاً من الزراعة الصناعية المعتمدة على الآلات الثقيلة والمبيدات.

5 استراتيجيات التغيير: كيف نصل إلى هناك؟

5.1 استراتيجيات التحول الثلاث حسب Erik Olin Wright

من أكثر أقسام الكتاب إثارة للاهتمام هو مناقشة استراتيجيات التحول التي يمكن أن تقودنا من العالم الحالي إلى عالم التنامي. يعتمد المؤلفون هنا على إطار Erik Olin Wright للاستراتيجيات الثلاث للتحول الاجتماعي:

  1. الاستراتيجيات الخلالية (Interstitial): بناء بدائل داخل مسام المجتمع الرأسمالي الحالي، مثل إنشاء تعاونيات، ومشاعات حضرية، وبنوك وقت، ومشاريع اقتصادية تضامنية. هذه المبادرات تخلق "nowtopias" - مساحات هنا والآن تظهر إمكانيات عالم مختلف.

  2. الاستراتيجيات التكافلية (Symbiotic): العمل خلال الدولة والمؤسسات القائمة لتحقيق إصلاحات "غير إصلاحية" (non-reformist reforms) - أي إصلاحات لا تهدف إلى استقرار النظام الحالي، بل إلى تغييره تنظيميا . مثال على ذلك:  للحد الأدنى من الدخل، أو تقليل ساعات العمل بإجراء قانوني، أو إصلاح النظام المالي.

  3. الاستراتيجيات القطعية (Ruptural): المواجهة المباشرة مع هياكل السلطة الرأسمالية من خلال مقاومة منظمة، مثل إضرابات، واحتلالات، وعصيان مدني، بهدف تفكيك أو الاستيلاء على  القائمة.

يؤكد المؤلفون على أن هذه الاستراتيجيات ليست متنافية، بل يجب أن تتفاعل وتعزز بعضها البعض. المبادرات الخلالية (التيارية) تخلق Know-how وقوى اجتماعية تدفع نحو إصلاحات تكافلية، بينما يمكن أن توفر الإصلاحات التكافلية مساحة وموارد للمبادرات الخلالية لتنمو. عندما تواجه هذه المسارات مقاومة من النخب، قد تصبح الاستراتيجيات القطعية ضروريا لكسر الجمود والدفع  التغيير.

5.2 بناء حركات اجتماعية وتغيير ثقافي

بالإضافة إلى هذا الإطار الاستراتيجي، يسلط الكتاب الضوء على أهمية بناء حركة اجتماعية عريضة قادرة على خلق توازن قوى  للتحول. هذا يتطلب تحالفات بين حركات متنوعة: حركات العدالة المناخية، والنقابات العمالية، وحركات العدالة العرقية والنسوية، ومجموعات السكان الأصليين، والحركات الزراعية. النضال من أجل التنامي هو بالضرورة نضال عبر وطني، لأنه يجب أن يعالج التفاوتات العالمية وآليات الاستغلال.

أخيراً، يشدد المؤلفون على أهمية التغيير الثقافي وبناء هيمنة ثقافية جديدة. هذا يعني تطوير روايات counter- ثقافية قادرة على تحدي "منطق الشائع" (common sense) السائد الذي يربط بين النمو والرفاهية. الفنون، والإعلام البديل، والتعليم الشعبي، والممارسات الثقافية البديلة تلعب جميعها دوراً حاسماً في تغيير القيم والخيال الاجتماعي، مما يجعل عالم التنامي ليس ممكناً فحسب، بل مرغوباً فيه أيضاً .

6 مناقشة نقدية: إسهامات وقيود الكتاب

6.1 الإسهامات الرئيسية

يتمثل الإسهام الرئيسي للكتاب في تقديمه توليفاً شاملاً ومراجعة منهجية لأدبيات التنامي المتناثرة والمتعددة التخصصات. كما يلاحظ مراجعو ، فإن الكتاب يشبه "تنظيف ربيعي  للمجال" ، حيث يجمع بين أكثر من ستين  متعلقاً بالتنامي في عمل متماسك. الإسهام الثاني المهم هو الطبيعة السياسية الواضحة للكتاب؛ فهو لا يخفي توجهه ما بعد الرأسمالي والمناهض للاستعمار، ويقدم حجة قوية حول  يجب أن تتبنى اليسار أجندة التنامي بدلاً من الاستمرار في تبني "الإنتاجية التقدمية" (progressive productivism) التي تعتمد على النمو لإعادة التوزيع.

ثالثاً، ينجح الكتاب في الجمع بين الرؤية الطموحة والتحليل العملي. من خلال مناقشة السياسات الملموسة والاستراتيجيات، يتجاوز الكتاب مستوى التجريد النظري ويظهر كيف يمكن للتحول أن يبدأ هنا والآن. أخيراً، يوفر الكتاب دفاعاً قوياً against الانتقادات الشائعة للتنامي، مثل كونه يفرض "تقشفاً" أو أنه غير عملي سياسياً، من خلال إظهار كيف أن التنامي هو في الواقع مشروع لتحسين نوعية الحياة والتحرر من قيود العمل والاستهلاك القسري.

6.2 القيود والانتقادات

على الرغم من قوته، فإن للكتاب بعض القيود. كما أشار بعض المراجعين، فإنه يركز بشكل كبير على النقد الفكري للنمو، بينلا يعطي نفس القدر من الاهتمام لتاريخ الحركات الاجتماعية التي قاومت النمو (مثل حركات العمال، والحركات الشعبية البيئية) .

 بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من مناقشة الاستراتيجيات، فإن الكتاب لا يتعمق كافيا في التوترات والتحديات العملية في الجمع بين الاستراتيجيات الخلالية والتكافلية والقطعية. 

على سبيل المثال، كيف يمكن للمبادرات المحلية الصغيرة أن تتوسع بدون أن يتم استيعابها من قبل النظام السائد؟ كيف يمكن للحركات الاجتماعية أن تتبنى منهج الإصلاح والمواجهة دون تناقض؟ .

انتقاد آخر هو أن الكتاب، على الرغم من طابعه الشامل، يترك بعض القضايا التي غير مطور في أدبيات التنامي، مثل العلاقة بين الطبقة والعرق في تحول التنامي، وتحديات الجيوبوليتيكا والإمبريالية في عالم نتعدد الطبقات، ودور تقنية المعلومات والرقمنة في اقتصاد ما بعد النمو . 

هذه المواضيع تتطلب مزيداً من البحث والتطوير.

7 الخاتمة: لماذا المستقبل هو التنامي؟

يختتم المؤلفون كتابهم بتأكيد مقولة عنوان الكتاب: "المستقبل هو التنامي". يوضحون أن هذا لا يعني بالضرورة أن المستقبل سيكون بمثابة يوتوبيا من التنامي المتحقق، بل أن الأنسانية ستواجه بشكل ما انكماشاً في شكلها المادي، إما خلال خيار ديمقراطي مخطط (تنامي managed) أو خلال كوارث وأزمات غير منظمة (unmanaged degrowth).

السؤال الحقيقي، لذلك، ليس متوقع سيكون هناك تنامي، بل كيف سيكون شكله: عادلاً أم غير عادل، ديمقراطياً أم استبدادياً.

يدعو الكتاب إلى بناء حركة اجتماعية عريضة قادرة على دفع  الخيار الأول: تحول ديمقراطي  مجتمع متضامن، وعادل إيكولوجياً، وما بعد رأسمالي. كما يكتب المؤلفون في الختام: "نحن بحاجة إلى التحرر من الاقتصاد الرأسمالي. يمنحنا التنامي الأدوات لثني قضبانها" . 

هذا لا يتطلب فقط سياسات جديدة، بل يتطلب إعادة بناء خيالنا السياسي نفسه ، والتخلي عن وهم أن النمو يمكن أن يستمر إلى الأبد على كوكب محدود.

كتاب "المستقبل هو التنامي" هو مساهمة أساسية في هذا الجهد. It is ليس مجرد دليل أكاديمي، بل هو كذلك بيان سياسي ونداء للعمل. كما كتب مراجع في Green European Journal: "هذا الكتاب هو قراءة أساسية لكل من الفاعلين في حركات المجتمع المدني وصناع السياسات، حيث ينجح في أن يكون طموحًا للغاية في أهدافه بينما يبقى واقعيًا".

 في لحظة تاريخية تتميز بأزمات عميقة، يقدم هذا الكتاب رؤية لا غنى عنها لأولئك الذين يرفضون الاستسلام لليأس ويريدون المساعدة في بناء عالم أكثر عدلاً واستدامة

إرسال تعليق

0 تعليقات