الشيطان امتد نحو السماء

الشيطان امتد نحو السماء

 

 The Devil Reached Toward the Sky: An Oral History of the Making and Unleashing of the Atomic Bomb

الشيطان امتد نحو السماء: تاريخ شفهي لصنع وإطلاق القنبلة الذرية

 صوت من الماضي يصيح في الحاضر

يقدم غاريت إم. غراف في كتابه القوي "الشيطان امتد نحو السماء" ليس مجرد سرد تاريخي آخر لمشروع مانهاتن، بل هو نسيج غني من الشهادات المباشرة والذكريات الشخصية لأولئك الذين صنعوا، شهدوا، وعانوا من فجر العصر الذري.

 يعتمد الكتاب على منهج "التاريخ الشفوي"، حيث يترك غراف الكلمة للشهود أنفسهم – العلماء، الجنود، الطيارون، الضحايا، وحتى بعض صناع القرار – ليرويوا القصة بأصواتهم الخاصة، مما يخلق تجربة قراءة حميمة ومروعة في آن واحد.

الكتاب ليس تسلسلاً زمنيًا جافًا للأحداث، بل هو غوص في النفس البشرية في مواجهة أعظم قوة تدميرية عرفها الإنسان. العنوان نفسه، المقتبس من وصف أحد الناجين في هيروشيما للفطر الذري، يضع القارئ في قلب الجحيم الذي صنعه الإنسان.

الفصل الأول: البذرة: الخوف، العبقرية، والسباق المحموم

يبدأ الكتاب بسياق الحرب العالمية الثانية والخوف العميق من أن ألمانيا النازية قد تكون على وشك تطوير "سلاح سري" يمكن أن يمنح هتلر النصر. هذه المخاوف، التي غذتها مجتمع الاستخبارات، هي التي دفعت بعض أعظم العقول العلمية في ذلك العصر – الكثير منهم لاجئون هاربون من النظام النازي نفسه – للتوجه إلى الرئيس روزفلت بتحذير.

من خلال شهادات شخصيات مثل ألبرت أينشتاين (من خلال مراسلاته) وليو سزيلارد، نفهم الدافع الأخلاقي المزدوج: التغلب على الفاشية ومنعها من امتلاك السلاح أولاً. هذا القسم يسلط الضوء على التناقض الأساسي الذي سيرافق المشروع حتى النهاية: استخدام قوة تدميرية مروعة في خدمة هدف أخلاقي (هزيمة الشر).

يصف الكتاب بعد ذلك الولادة المتعثرة لمشروع مانهاتن تحت إدارة الجنرال ليزلي غروفز، وهو مهندس عسكري صارم وطموح، والعالم الفيزيائي الروحي ج. روبرت أوبنهايمر، الذي وجد نفسه فجأة مسؤولاً عن تجميع وإدارة مجموعة من ألمع العقول وأكثرها غرابة في التاريخ في مكان سري للغاية في لوس ألاموس، نيو مكسيكو.

الفصل الثاني: لوس ألاموس: الجزيرة المحاصرة بالأسرار والقلق

يخصص غراف مساحة كبيرة للحياة داخل مجتمع لوس ألاموس المغلق. من خلال ذكريات العلماء وعائلاتهم (مثل كيتي أوبنهايمر)، نرى الجانب البشري للمشروع.

 نقرأ عن النقاشات الفلسفية المحتدمة في الليل حول الآثار الأخلاقية لصنعهم، بينما يعيشون حياتهم اليومية في فقاعة من الأسرار، محاطة بأسلاك شائكة وحراس مسلحين.

هنا، تبرز أصوات مهمة مثل نيلز بور، الذي حذر من سباق التسلح النووي القادم، وجيمس فرانك، الذي قاد جهوداً لحث الحكومة على عرض تفجير توضيحي للسلاح بدلاً من استخدامه على مدينة.

 هذه المناقشات تم قمعها في النهاية من قبل غروفز وأوبنهايمر، الذي شعر بأن واجبه يتمثل في إكمال المهمة التي كلف بها.

يصل التوتر ذروته مع الاستعداد لاختبار "ترينيتي"، أول تفجير نووي في التاريخ. شهادات المشاهدين، مثل عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان والعالم كينيث بينبريدج، تصف المشهد بأسلوب لا ينسى: الوميض الأعمى، الحرارة الخانقة، صدمة الموجة، والسحابة الفطرية المتصاعدة.

 العبارة الشهيرة لأوبنهايمر ("أنا أصبحت الموت، مدمر العوالم") ترد هنا، ولكنها تقدم جنباً إلى جنب مع ردة فعل بينبريدج الأكثر أرضية: "الآنسونَ من الحماقة" (الآن نحن جميعاً أولاد عاهرات)، مما يعيد القارئ إلى الصدمة الأرضية للحدث بدلاً من تأملاته الشعرية.

الفصل الثالث: القرار: بين المطرقة والسندان

أحد أكثر أقسام الكتاب إثارة للتفكير هو ذلك الذي يتناول القرار بإسقاط القنبلة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي. لا يقدم غراف إجابة سهلة، بل يعرض وجهات النظر المتضاربة من خلال كلمات صناع القرار أنفسهم.

نرى الرئيس هاري ترومان الذي ورث السلاح بعد وفاة روزفلت، ويصور نفسه كشخص اتخذ القرار الصعب لإنهاء الحرب وإنقاذ مئات الآلاف من الأرواح الأمريكية التي كان من الممكن أن تُفقد في غزو بري لليابان. هذا التبرير العسكري التقليدي يتم مواجهته بشهادات من جنرالات مثل دوايت أيزنهاور والأميرال وليام ليهي، الذين أعربوا عن شكوكهم واعتراضهم الأخلاقي على استخدام القنبلة.

يظهر التناقض الأخلاقي بوضوح: هل كان استخدام السلاح ضرورياً حقاً؟ أم كان أيضاً رسالة إلى الاتحاد السوفيتي، البداية المبكرة للحرب الباردة؟ من خلال الشهادات، يبني غراف صورة معقدة حيث تختلط الحسابات العسكرية، والسياسية، والشخصية في قرار لا يزال يثير الجدل حتى اليوم.

الفصل الرابع: الوميض: شهادات من قلب الجحيم

هذا هو قلب الكتاب وأقوى أقسامه. هنا، ينتقل غراف إلى الشهود الحقيقيين على القوة التدميرية للقنبلة: الناجون من هيروشيما وناغازاكي. هذه الشهادات مؤلمة بشكل عميق وغير قابلة للإنكار.

نقرأ عن أشخاص مثل الدكتور ماساكازو فوجيي، طبيب في هيروشيما وصف الدمار الذي لا يمكن تصوره، محاولاً علاج ضحايا لا يحصون بإمكانيات لا تذكر. 

نسمع من ناجين كانوا أطفالاً آنذاك، يصفون الوميض الأعمى، العاصفة النارية، والرعب من رؤية الناس يتحولون إلى رماد أو تذوب أجسادهم. تصف إحدى الشهادات كيف أن "الشيطان امتد نحو السماء" – مما أعطى الكتاب عنوانه – وهو وصف بصري قوي للفطر الذري.

هذه الروايات لا تتعلق فقط بالدمار الفوري، بل بالمعاناة طويلة الأمد: الحروق المشوهة، الأمراض الإشعاعية، السرطان، والوصمة الاجتماعية التي عانى منها "هيباكوشا" (الناجون من القنبلة). هذا القسم يحول الإحصاءات المجردة (مئات الآلاف من القتلى) إلى مآسٍ إنسانية فردية لا تُنسى.

الفصل الخامس: العواقب: عبء المعرفة والعالم الجديد

يستكشف الجزء الأخير من الكتاب العالم الذي خلفته القنبلة وراءها. نرى ردة فعل الطاقم الذي أسقط القنبلتين، طيار "إينولا غاي" بول تيبيتس وطاقمه، الذين وصفوا المهمة بالنجاح التكتيكي ولكنهم اعترفوا لاحقاً بالعبء النفسي الذي حملوه لبقية حياتهم.

نعود إلى العلماء في لوس ألاموس، حيث حلَّ الشعور بالإنجاز محلّه صدمة عميقة وندم لدى الكثيرين. أصبح أوبنهايمر صوتاً ضد سباق التسلح النووي، بينما دافع آخرون مثل إدوارد تيلر عن تطوير القنبلة الهيدروجينية. ينقسم المجتمع العلمي، ويعكس انقسامه الانقسام الأوسع في العالم.

يختتم غراف بمنظور عالمي، حيث أصبح "توازن الرعب" النووي هو السمة المحددة للقرن العشرين. الكتاب لا ينتهي بإجابة، بل بسلسلة من الأسئلة الأخلاقية التي لا تزال تتردد حتى اليوم في عصر لا تزال فيه الأسلحة النووية تشكل تهديداً وجودياً للبشرية.

قوة التاريخ الشفوي

قوة "الشيطان امتد نحو السماء" لا تكمن في تحليل جديد أو كشف صادم، بل في طريقته في سرد القصة. من خلال جمع هذه الأصوات المتباينة والمتكاملة في كثير من الأحيان، يخلق غراف سرداً تاريخياً ديمقراطياً. 

إنه يضع قارئ القرن الحادي والعشرين في مكانة الشاهد، ليس على الحقائق فحسب، بل على المشاعر: الحماس، الخوف، الفخر، الذنب، والرعب.

الكتاب هو تذكير مثير بالتعقيد الأخلاقي الذي يصاحب التقدم العلمي، والثمن البشري الباهظ للحرب، والمسؤولية الهائلة التي تأتي مع القوة الهائلة.

 إنه تاريخ شفهي لا يروي فقط كيف صنعت القنبلة الذرية، بل يظهر بشكل لا يُنسى لماذا غيرت العالم إلى الأبد، ولماذا يجب ألا ننسى أبداً مواجهة الإنسانية التي تقف وراء هذه اللحظة المحورية في التاريخ.

إرسال تعليق

0 تعليقات