"الهيمنة: سقوط الإمبراطورية الرومانية وصعود المسيحية" لأليس روبرتس
الكتاب والمؤلفة
أليس روبرتس (Alice Roberts) هي عالمة تشريح ومؤرخة وعالمة آثار بريطانية معروفة بعملها في الترويج للعلوم والتاريخ عبر وسائل الإعلام المختلفة.
تشغل منصب أستاذة المشاركة العامة للعلوم في جامعة برمنغهام منذ عام 2012، وهي أيضًا نائبة رئيس الجمعية الإنسانية في المملكة المتحدة (Humanists UK). اشتهرت روبرتس بعرضها لبرامج تلفزيونية مثل "Digging for Britain" و"Britain’s Most Historic Town"، وهي مؤلفة سلسلة من الكتب الأكثر مبيعًا التي تجمع بين العلوم والتاريخ والآثار .
أمّا كتابها الصادر في أغسطس 2025 تحت عنوان "الهيمنة: سقوط الإمبراطورية الرومانية وصعود المسيحية" (Domination: The Fall of the Roman Empire and the Rise of Christianity)، فيمثل منعطفًا جديدًا في مسيرتها الأدبية.
بينما ركزت أعمالها السابقة مثل "الدفن" (Buried) و"الخفي" (Crypt) على الآثار وعلم العظام، ينتقل هذا الكتاب إلى تحليل تاريخي أوسع لصعود المسيحية داخل الإمبراطورية الرومانية وخارجها.
يستكشف الكتاب كيف تحولت المسيحية من طائفة صغيرة في الشرق الأوسط إلى قوة ثقافية وسياسية مهيمنة في أوروبا والعالم .
الإطار النظري والمنهجية
يعتمد كتاب "الهيمنة" على منهجية متعددة التخصصات، حيث تجمع روبرتس بين التحليل الأثري والدراسات النصية والمنظور الاقتصادي-الاجتماعي لفهم انتشار المسيحية. على عكس بعض الأعمال السابقة التي ركزت على الجوانب اللاهوتية أو الروحية، تقدم روبرتس تفسيرًا ماديًا إلى حد كبير، مشددة على دور النخب والاقتصاد والسلطة في هذا الانتشار .
أحد الجوانب الفريدة في منهجية روبرتس هو استخدامها للأدلة الأثرية الملموسة مثل الفخار والعملات والمباني لتتبع التغيرات في الممارسات الدينية والاجتماعية.
على سبيل المثال، تفحص كيف تحولت الفيلات الرومانية إلى مراكز مسيحية، وكيف استخدمت المواد والهياكل الأصلية لبناء كنائس جديدة، مما يعكس استمرارية في البنى المادية والاجتماعية على الرغم من التحول الديني .
كما تستخدم روبرتس التحليل اللغوي لتتبع انتشار المسيحية. من خلال دراسة تطور المصطلحات مثل "فوديراتي" (foederati) و"رومانيتاس" (Romanitas) و"كريستيانيتاس" (Christianitas)، تظهر كيف تم دمج المفاهيم الرومانية في الهيكل المسيحي الناشئ.
هذا النهج يسلط الضوء على كيفية تكيف النخب الرومانية مع النظام الجديد والحفاظ على مكانتها وسلطتها .
ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن روبرتس تكتب من منظور إنساني (humanist) واضح. كغير مؤمنة، فهي تنتقد التفسيرات التقليدية التي تركز على التفوق الروحي أو الأخلاقي للمسيحية. بدلاً من ذلك، ترى أن الانتشار كان مدفوعًا بشكل أساسي بالمصالح المادية والرغبة في السلطة .
التحول من الإمبراطورية الرومانية إلى الهيمنة المسيحية
يركز الكتاب على الفترة من القرن الثالث إلى القرن الخامس الميلادي، عندما كانت الإمبراطورية الرومانية تتراجع في أوروبا الغربية بينما كانت المسيحية تنتشر.
تزعم روبرتس أن الإمبراطورية الرومانية لم "تسقط" تمامًا، بل تحولت إلى كيان جديد: الكنيسة المسيحية. تقول: "إن الحقيقة الأبدية ليست لاهوتية: الآلهة تأتي وتذهب، المعابد ترتفع وتسقط - لكن العمل دائمًا هو العمل" .
دور المجالس واللاهوت في توحيد المسيحية
تناقش روبرتس مجلس نيقية (AD325) كحدث مركزي في هذا التحول.
بدلاً من رؤيته كمجرد انتصار للعقيدة، تحلله كتجمع لمصالح متنافسة تم توحيدها تحت مظلة كريستولوجيا محددة. من خلال تفكيك الأساطير المحيطة بالمجلس، تظهر كيف تم استخدام اللاهوت كأداة للتوحيد السياسي والاجتماعي .
استمرارية النخب والهياكل
أحد الحجج الرئيسية في الكتاب هو أن النخب الرومانية استمرت في السلطة من خلال التحول إلى المسيحية.
مع انهيار الهياكل الإمبراطورية، وجد المسؤولون والعسكريون والأثرياء الرومان طرقا للحفاظ على امتيازاتهم من خلال الانضمام إلى الكنيسة أو دعمها.
أصبحت المناصب الكنسية مربحة ومؤثرة، مما جذب العديد من نفس العائلات التي كانت تهيمن سابقًا على الإدارة الرومانية .
الانتشار خلف الإمبراطورية
كما يتتبع الكتاب انتشار المسيحية خلف حدود الإمبراطورية الرومانية، لا سيما في المناطق الكلتية مثل ويلز وبريتاني.
من خلال دراسة الأدلة الأثرية والنصوص، تظهر روبرتس كيف تم دمج المسيحية مع الهياكل الاجتماعية المحلية، مما سمح لها بالانتشار بسرعة أكبر من خلال شبكات النخبة الموجودة .
الآليات الاقتصادية والاجتماعية للانتشار
استهداف النخب والطبقات المتوسطة
وفقًا لروبرتس، لم يكن الانتشار المبكر للمسيحية بين الفقراء أو المضطهدين، بل بين النخب الحضرية والطبقات المتوسطة.
كان المبشرون مثل بولس يستهدفون بشكل استراتيجي الأثرياء والمتعلمين، الذين يمكنهم توفير الموارد والنفوذ للحركة الجديدة. تقول: "المتبنون الأوائل وجدوا، ليس الريفيين، أو الفقراء الحضر في الإمبراطورية - ولكن بين الطبقات المتوسطة والعليا في المناطق الحضرية" .
الاقتصاد والسلطة
تصف روبرتس الكنيسة بأنها نظام معقد من الشركات المترابطة في الرعاية الصحية، والرعاية القانونية، الزراعة، الشحن، والتعليم.
من خلال السيطرة على هذه الخدمات، أصبحت الكنيسة قوة اقتصادية وسياسية لا يمكن تجاهلها. حتى أعمال الخير المسيحية، كما تقول، لم تكن بكل تأكيد لحل الفقر، ولكن لتسويق الكنيسة لجميع مستويات المجتمع: تم إخبار الفقراء أنهم سيجنون جوائز في الجنة، بينما تم إخبار الأغنياء أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى الجنة هي التبرع للكنيسة .
استمرارية الممارسات الثقافية
كما تظهر روبرتس كيف امتصت المسيحية واستمرت الممارسات الرومانية الوثنية. على سبيل المثال، استمرت طقوس الولائم بجانب القبور الرومانية وأصبحت جزءًا من التقويم المسيحي.
هذه الاستمرارية سهلت الانتقال وجعلت المسيحية أكثر قبولاً السكان المحليين .
آليات انتشار المسيحية
النقد الموجه للكتاب والردود
النقد من منظور أكاديمي
تلقى الكتاب بعض الانتقادات من المؤرخين الأكاديميين. أحد الانتقادات الرئيسية هو إهمال الأعمال العلمية السابقة المهمة. على سبيل المثال، تم اتهام روبرتس بعدم مناقشة أعمال بيتر براون (Peter Brown) بشكل كاف،
وهو باحث رائد في تاريخ العصور القديمة المتأخرة. كما أن هناك القليل من المناقشة حول كيف تطور الدين الروماني على مر القرون، مما قد يبسط التعقيدات التاريخية .
النقد من منظور ديني
كإنسانية، فإن تفسير روبرتس مشكك واختزالي نحو الدوافع الدينية. يجادل النقاد بأنها تتجاهل الجاذبية الروحية والفلسفية الحقيقية للمسيحية.
على سبيل المثال، يشير أحد المراجعين إلى أن المسيحية قدمت مساواة غير عالمية في عالم من التقسيمات الاجتماعية الواسعة، وكانت تعاليم المسيح حول محبة الفقراء والمنبوذين قوية ومتحولة. من خلال رفض هذه الجوانب، قد تفتقد روبرتس جزءًا هام من الصورة .
الرد على النقد
رداً على هذه الانتقادات، يمكن القول إن روبرتس لا تحاول كتابة تاريخ لاهوتي، بل تاريخ للسلطة والاستمرارية المادية.
تركيزها على الاقتصاد والطبقة الاجتماعية يسلط الضوء على جوانب مهمة غالبًا ما يتم تجاهلها في الروايات التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدامها للأدلة الأثرية يوفر منظورًا جديدًا وقويًا لفهم هذه الفترة .
تقييم عام
يقدم كتاب "الهيمنة" لأليس روبرتس تفسيرًا جريئًا ومثيرًا للجدل لصعود المسيحية. من خلال التركيز على الاستمرارية الاقتصادية والاجتماعية بين الإمبراطورية الرومانية والكنيسة المسيحية، فإنه يتحدى الروايات التقليدية التي تؤكد على التفوق الروحي أو الأخلاقي. بدلاً من ذلك، يصور الانتشار على أنه عملية قائمة على المصالح المادية والرغبة في السلطة.
على الرغم من الانتقادات حول منهجيته واختزاله، فإن الكتاب يساهم بشكل هام في النقاش العام حول تاريخ المسيحية. من خلال الجمع بين الآثار والتاريخ والاقتصاد، يقدم روبرتس رواية غنية ومتعددة التخصصات قبوله للقارئ العام.
كما أنه يثير أسئلة مهمة حوله كيف يتم كتابة التاريخ، ومن يتم تضمينه واستبعاده، وكيف يمكن للسلطة أن تشكل رواياتنا عن الماضي.
في النهاية، "الهيمنة" هو ليس فقط الماضي، ولكنه ينعكس على الحاضر. في عالم اين لا يزال الدين والسلطة متشابكان بشكل معقد، يذكرنا كتاب روبرتس بـ أهمية التسائل الروايات المقبولة و البحث عن الحقائق الأكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام مخفي وراءها
0 تعليقات