"تهافت التهافت" لابن رشد
يُعد كتاب "تهافت التهافت" للفيلسوف الأندلسي ابن رشد (1126–1198م) رَدّاً مفصَّلاً على كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبي حامد الغزالي، الذي هاجم فيه الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن سينا، واتهمهم بالكفر في قضايا مثل قدم العالم وعلم الله بالجزئيات. ألَّف ابن رشد كتابه عام 1180م ليُدافع عن الفلسفة العقلانية ويرد على حجج الغزالي التي وصفها بـ"الضعف" و"الجدل" بدل البرهان المنطقي .
أبرز محاور الكتاب
الدفاع عن أزلية العالم:
خالف ابن رشد رأي الغزالي القائل بحدوث العالم ووجود بداية ونهاية له، مؤيداً فكرة أرسطو عن أبدية العالم وعدم انقطاعه، معتبراً أن الحركة والأسباب الطبيعية تدل على وجود خالق أزلي .انتقد ابن رشد حجج الغزالي بأنها تعتمد على التأويل الخاطئ لنصوص الفلاسفة وانتقاء ما يناسب رأيه .
قضية السببية والعلم الإلهي:
دافع عن مبدأ السببية، مؤكداً أن فهم العلاقات الطبيعية بين الأشياء يقود إلى معرفة الله، بينما رأى الغزالي أن السببية نفياً تدل على قدرة الله المطلقة. كما رفض ابن رشد إنكار علم الله بالجزئيات، معتبراً أن العلم الإلهي شامل لكنه لا يُقاس بالعلم البشري .النفس ومسألة الخلود:
ناقش روحانية النفس البشرية وخلودها، معارضاً فكرة فناء النفس التي تبناها الغزالي، وربط ذلك بفلسفة أرسطو التي تؤكد على اتصال العقل الفعال بالإنسان .الدفاع عن الفلاسفة وتفنيد التكفير:
ردَّ على اتهامات الغزالي بالكفر الموجهة للفلاسفة في ثلاث قضايا: قدم العالم، وعلم الله بالجزئيات، وإنكار البعث الجسدي. أوضح ابن رشد أن هذه القضايا قابلة للتأويل الفلسفي دون تعارض مع جوهر الدين، ودعا إلى فصل المنطق الفلسفي عن العقائد الشعبية .منهجية الكتاب وأخلاقيات الحوار:
اتبع ابن رشد منهجاً تحليلياً تفصيلياً، حيث رد على كل نقطة في كتاب الغزالي فقرةً فقرة، مؤكداً على أهمية الروح العلمية وضرورة احترام الرأي المخالف. كما دعا إلى تفسير النصوص الدينية تفسيراً روحياً يراعي أهداف التشريع بدلاً من التفسير الحرفي .
السياق التاريخي والفكري
الصراع بين الفلسفة والكلام: يعكس الكتاب الجدل العميق في الفكر الإسلامي بين تيارين:
الفلسفة العقلانية (مُمثلة بابن رشد وأرسطو) التي تؤكد على البرهان المنطقي.
علم الكلام (مُمثل بالغزالي) الذي يركز على الدفاع عن العقيدة عبر الحجج الجدلية.
تأثير الغزالي: هاجم الغزالي في "تهافت الفلاسفة" أفكار الفلاسفة مثل ابن سينا، معتبراً إياهم منحرفين عن الإسلام في قضايا كـ"قدم العالم"، مما دفع ابن رشد للرد دفاعاً عن شرعية الفلسفة في الإسلام.
تحليل معمق
أزلية العالم:
الحجة الأرسطية: بنى ابن رشد فكرته على مبدأ "الحركة الأزلية" لأرسطو، حيث أكد أن العالم لا بداية له، لأن وجود "الزمن" مرتبط بوجود "الحركة"، والله هو المُحرِّك الأول الذي لا يتحرك.
نقد الغزالي: رأى الغزالي أن هذه الفكرة تُناقض فكرة "الخلق من العدم" في الدين، فرد ابن رشد بأن النصوص الدينية قابلة لتأويل مجازي (مثل تفسير "العرش" و"السماء" برموز فلسفية).
السببية والعلم الإلهي:
السببية الطبيعية: رفض ابن رشد نفي الغزالي للسببية (الذي يعتمد على فكرة أن الله هو الفاعل المباشر لكل حدث)، مؤكداً أن إنكار السببية يُفقد العلوم معناها.
علم الله بالجزئيات: أوضح ابن رشد أن علم الله ليس كعلم البشر (الذي يعتمد على الزمن والتغير)، بل هو علمٌ كليٌّ وشامل لا ينفصل عن ذاته.
خلود النفس:
العقل الفعّال: تبنى ابن رشد نظرية أرسطو عن اتصال النفس البشرية بـ"العقل الفعّال" (كقوة إلهية)، معتبراً أن الخلود يكون للعقل لا للجسد، وهو ما اعتبره الغزالي إنكاراً للبعث الجسدي.
التأويل الديني: اقترح ابن رشد أن البعث في النصوص الدينية قد يُفهم رمزياً (كخلود روحي) لا حرفياً.
المنهجية الفلسفية لابن رشد
الرد التفصيلي: قسم الكتاب إلى فصول تتطابق مع هجوم الغزالي، حيث حلل كل اتهام منطقياً، مثل:
تفنيد فكرة "حدوث العالم" عبر تحليل مفاهيم "الزمن" و"الحركة".
استخدام قواعد المنطق الأرسطي (القياس البرهاني) لدحض الحجج الجدلية.
الفصل بين الخطابين: ميز ابن رشد بين:
خطاب العامة: يحتاج إلى التفسير الحرفي للنصوص.
خطاب الخواص (الفلاسفة): يحتاج إلى تأويل عقلي عميق.
النقد والتراث
في العالم الإسلامي:
اتهمه بعض المتكلمين (كابن تيمية) بالخروج عن العقيدة، خاصة في قضية البعث.
أُهملت أفكاره لقرون، ثم أعادت الحركات الإصلاحية (كالنهضة العربية) اكتشافه.
في الغرب:
تُرجم الكتاب إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر، وأثر على مفكرين مثل توما الأكويني في دفاعه عن العقلانية.
اعتبره فلاسفة عصر التنوير رمزاً للصراع بين العقل والدين.
إشكالات الكتاب الحديثة
نقد المنهج:
هل يمكن فعلاً التوفيق بين الفلسفة اليونانية والنصوص الدينية؟
هل تأويل ابن رشد للنصوص (كالبعث) يُضعف اليقين الديني؟
نقد المضمون:
علمياً: فكرة "أزلية العالم" تعارض نظرية الانفجار العظيم (Big Bang).
فلسفياً: هل يمكن قبول فكرة "العقل الفعال" في عصر العلوم التجريبية؟
مصادر للاستزادة
كتب:
"ابن رشد وفلسفته" لمحمد يوسف موسى.
"التراث والحداثة" لمحمد عابد الجابري.
أبحاث:
دراسة "ابن رشد والغزالي: صراع العقل والنقل" (مجلة المنهاج).
ترجمات:
النسخة الإنجليزية للكتاب: The Incoherence of the Incoherence بترجمة سايمون فان دن بيرغ
0 تعليقات