ملخص مقالة في الفهم البشري لجون لوك


 

"مقالة في الفهم البشري" لجون لوك

أهمية العمل

ظهر كتاب "مقالة في الفهم البشري" (An Essay Concerning Human Understanding) للفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704) لأول مرة عام 1689 (رغم تأريخه 1690)، ويُعد أحد الأعمال المؤسسة للمدرسة التجريبية في الفلسفة الحديثة. كُتِب العمل خلال فترة المنفى الهولندي للوك بعد سقوط حاميه الإيرل شافتسبيري، ونُشر بالتزامن مع عمله السياسي الشهير "رسالتان في الحكم" .

 جاء الكتاب نتيجة مناقشات لوك مع علماء بارزين في الجمعية الملكية مثل إسحاق نيوتن وروبرت بويل، حيث سعى لتطوير نظرية للمعرفة تتوافق مع المنهج العلمي التجريبي الناشئ .

يقدم العمل نقدًا جذريًا للمنهجيات السكولائية (المدرسية) التي هيمنت على الفكر الأوروبي لقرون، ويهدف إلى "إزالة الحطام الفكري" الذي يعيق السعي الحقيقي للمعرفة . 

يطرح لوك سؤالًا مركزيًا: ما هي حدود الفهم البشري؟ وكيف نكتسب المعرفة؟ تشكل الإجابة على هذا السؤال أساس مشروعه الفلسفي الذي سيؤثر لاحقًا في مفكرين مثل ديفيد هيوم وإيمانويل كانط، ويضع حجر الزاوية لعصر التنوير.

الكتاب الأول: نقض فكرة "المبادئ الفطرية"

يبدأ لوك هجومه على المدرسة العقلانية (خاصة ديكارت وأتباع أفلاطون) الذين زعموا وجود:

  • معرفة فطرية: مثل مبدأ "الكل أكبر من الجزء"

  • أفكار فطرية: مثل فكرة الله أو المفاهيم الأخلاقية الأساسية

حجج لوك الرئيسية ضد الفطرية:

  1. غياب الإجماع العالمي:

    • الأطفال والذوي الإعاقات العقلية لا يدركون هذه المبادئ .

    • الرحّالون يبلغون عن شعوب لا تمتلك فكرة الإله أو لديها أخلاقيات مختلفة جذريًا (مثل أكل الأعداء) .

  2. الاستدلال الدائري:
    "إذا كانت الأفكار الفطرية تحتاج للعقل لاكتشافها، فلماذا لا نعتبر كل النتائج العقلية فطرية؟" . بهذا يصبح تمييز الرياضيات بين البديهيات والنظريات تعسفيًا.

  3. تطور المعرفة عند الأطفال:
    يولد العقل كـلوح فارغ (Tabula Rasa)، وتُبنى الأفكار عبر التجربة الحسية التدريجية . ففكرة "الحلاوة" مثلًا تُكتسب بالتذوق، لا تولد مع الإنسان .

جدول: أنواع الأفكار عند لوك 

نوع الفكرةالمصدرخصائصهاأمثلة
البسيطةالتجربة المباشرةغير قابلة للتحليل، تشكل وحدات البناءلون، طعم، صلابة
المركبةتركيب الأفكار البسيطةقابلة للتحليل والتقسيمتفاحة، عدالة، جمال
الانعكاسيةتأمل العمليات العقليةتنشأ من التفكير الداخليشك، إرادة، إيمان

الكتاب الثاني: نظرية الأفكار وأصول المعرفة

يقدم لوك هنا نظريته التجريبية البديلة، مؤكدًا أن أصل كل الأفكار هو:

1. مصادر الأفكار

  • الإحساس (Sensation): التفاعل مع العالم الخارجي عبر الحواس (مثل رؤية اللون الأحمر).

  • التأمل/الانعكاس (Reflection): مراقبة العقل لعملياته الداخلية (كالرغبة أو الشك) .

2. الصفات الأولية والثانوية

يميز لوك بين نوعين من خصائص الأشياء:

  • الصفات الأولية:

    • موجودة في الأجسام بذاتها مستقلة عن إدراكنا.

    • تشمل: الشكل، الحجم، الحركة، العدد، الصلابة.

    • أفكارنا عنها تشبه الواقع (فكرة كروية كرة الثلج تطابق شكلها الحقيقي) .

  • الصفات الثانوية:

    • ليست في الأجسام بل هي قدرة في الصفات الأولية على إثارة إحساساتنا.

    • تشمل: اللون، الطعم، الرائحة، الصوت.

    • أفكارنا عنها لا تشبه الواقع (اللون الأبيض للثلج ليس سوى تأثير جزيئاته على أعيننا) .

مثال توضيحي:
عند لمس كرة ثلج:

  • صلابتها وحجمها (صفات أولية) موجودة في الكرة.

  • برودتها وبياضها (صفات ثانوية) هي تفاعل بين جزيئاتها وحواسنا.

3. الهوية الشخصية والوعي

يقدم لوك تحليلاً ثوريًا للهوية:

  • الهوية الجسدية تعتمد على استمرارية المادة.

  • الهوية الشخصية تعتمد على استمرارية الوعي والذاكرة:

    "الهوية الشخصية تتمثل في استمرار الوعي... فبقدر ما يمتد هذا الوعي إلى الأفعال والأفكار الماضية، تمتد هوية الشخص" .
    أي أنك أنت نفس الشخص الذي فعل شيئًا في الماضي إذا كنت تتذكر فعله.

4. ربط الأفكار

يلاحظ لوك أن العقل يربط الأفكار عبر التكرار والمرافقة (مثل الربط بين النار والألم). هذه الآلية تفسر:

  • تكوين العادات

  • التحيزات

  • أسس التربية (ربط المكافأة بالسلوك الجيد) 

الكتاب الثالث: فلسفة اللغة وإساءة استعمالها

ينتقل لوك لتحليل العلاقة بين اللغة والفكر، مقدمًا نظريته الاسمية (Nominalism):

1. أصل الكلمات العامة

  • العالم يحتوي على أشياء فردية فقط (لا وجود لـ"ماهيات" أو "كليات" مستقلة).

  • الكلمات العامة (مثل "إنسان"، "شجرة") تنشأ عبر:

    • الملاحظة: رؤية أوجه التشابه بين الأفراد.

    • التجريد: عزل الصفات المشتركة (كالعقلانية للإنسان).

    • التسمية: إطلاق مصطلح على الفكرة المجردة .

2. التمييز بين الجوهر الاسمي والجوهر الحقيقي

  • الجوهر الاسمي: مجموعة الصفات الملاحظة التي نحدد بها الفئة (مثل: ريش، منقار، أجنحة للطيور).

  • الجوهر الحقيقي: التركيب الداخلي المجهول للأشياء (التركيب الذري أو الجزيئي الذي ينتج الصفات) .

3. إساءة استعمال اللغة

يحذر لوك من ست إساءات للغة تعيق الفكر:

  1. استخدام كلمات بدون أفكار واضحة (مثل "الجوهر" بمعنى غامض).

  2. عدم الثبات في استخدام المصطلحات.

  3. الغموض المتعمد باستخدام مصطلحات قديمة بمعان جديدة.

  4. اعتبار الكلمات تشير لأشياء لا لأفكار.

  5. تحريف المعاني لخدمة أغراض.

  6. افتراض الوضوح دون ضمان .

ويقترح أربعة علاجات، أهمها: وضوح التعريفات، الثبات الدلالي، والتواضع على المعاني.

الكتاب الرابع: طبيعة المعرفة وحدودها

يختتم لوك بتحليل المعرفة البشرية، محدّدًا إياها بأنها:

"إدراك الاتفاق أو الاختلاف بين أفكارنا" .

1. درجات المعرفة

  • البديهة (Intuition): معرفة مباشرة لا تتوسطها خطوات (كمعرفة أن الأبيض ليس أسود).

  • البرهان (Demonstration): معرفة عبر سلسلة استدلالات (كبراهين الهندسة).

  • المعرفة الحسية (Sensitive): معرفة بوجود الأشياء الخارجية عبر الحواس (أدنى درجات اليقين) .

2. حدود المعرفة البشرية

حسب لوك، المعرفة اليقينية ممكنة فقط في:

  • الهوية والتنوع: (أ هو أ، أ ليس ب).

  • العلاقات الرياضية: (2+2=4).

  • الوجود المحدود: (وجود الذات عبر التأمل، وجود الله عبر البرهان).

  • علم الأخلاق: يمكن استنباطه عقليًا .

أما العلوم الطبيعية (كالفيزياء) فلا تقدم معرفة بل رأيًا احتماليًا، لأننا لا ندرك الجواهر الحقيقية للأشياء، بل نلاحظ فقط تعايش الصفات (مثلًا: المغناطيس يجذب الحديد دائمًا، لكننا لا نعرف السبب الجوهري) .

3. موقف من الشكوكية

يواجه لوك إشكالية: كيف نعرف العالم الخارجي إذا كنا نتعامل فقط مع أفكار في أذهاننا؟ يجيب بثلاث استراتيجيات:

  1. الرفض العملي للشك المطلق: "هل يعقل أن يشك أحد حقًا في وجود العالم؟" .

  2. المعرفة الوظيفية: معرفتنا كافية للتعامل مع العالم حتى لو لم تكن مطلقة.

  3. علامات سبع للواقعية، أهمها:

    • حدة الإدراك الحسي

    • الألم والمتعة المرتبطان به

    • اتساق المشاهدات بين حواس مختلفة .

 التأثير والانتقادات

1. الأثر الفكري

  • أسس التجريبية البريطانية التي سيطورها بيركلي وهيوم.

  • أثر في علم النفس التربوي (خصوصًا نظريات التعلم بالربط).

  • قدم تحليلات رائدة في فلسفة اللغة والهوية الشخصية .

2. الانتقادات الرئيسية

  • غوتفريد لايبنتز: في "مقالات جديدة عن الفهم البشري" (1704) هاجم رفض الأفكار الفطرية، قائلاً إن أفكار الانعكاس التي قبلها لوك تقوده لنفس الموقف الفطري .

  • جورج بيركلي: في "مبادئ المعرفة البشرية" (1710) هاجم تمييز الصفات الأولية/الثانوية، قائلاً إن كل الصفات إدراكية، وانتقد فكرة "الجوهر" المادي .

  • ديفيد هيوم: طور شكوكية أشد، رافضًا حتى فكرة السببية والهوية الذاتية.

3. الثناء

امتدح فولتير العمل قائلاً:

"كما يشرح عالم التشريح الماهر عمل الجسد، يقدم لوك التاريخ الطبيعي للوعي... بعد أن كتب كثيرون روايات عن النفس، جاء حكيم كتب تاريخها" .

 ثورة لوك الدائمة

تظل "مقالة في الفهم البشري" عملًا حيويًا لأنها:

  1. حولت مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى العقل البشري وخبرته.

  2. أسست منهجًا نقديًا لتحليل الأفكار واللغة.

  3. وازنت بين التواضع المعرفي (إقرار الحدود) والثقة العقلانية (إمكانية التقدم).

  4. بقيت قضاياها المركزية (مصدر المعرفة، علاقة اللغة بالواقع، طبيعة الهوية) موضع جدل فلسفي حتى اليوم.

كما لخص لوك هدفه في المقدمة:

"مهمتي هي استقصاء منشأ المعرفة البشرية، يقينيتها ومداها... كي نعرف ما يمكن لإدراكنا أن يحيط به، وما يجب أن نقف عنده" 


المصادر:
١. An Essay Concerning Humane Understanding - Project Gutenberg 
٢. An Essay Concerning Human Understanding - Wikipedia 
٣. An Essay Concerning Human Understanding - EBSCO 
٤. SparkNotes: An Essay Concerning Human Understanding 
٥. Marxists.org: An Essay Concerning Human Understanding 

٦. The Cambridge Companion Review - NDPR 

إرسال تعليق

0 تعليقات