"حضرة المحترم" لنجيب محفوظ
رحلة الطموح التي تأكل الروح
رواية "حضرة المحترم"، التي كتبها نجيب محفوظ عام 1975، تعد من الأعمال الرمزية العميقة في أدب محفوظ، وهي من الروايات القصيرة المكثفة من حيث الطرح الفلسفي، رغم بساطة ظاهر السرد. تتميز الرواية بأنها تقدم شخصية واحدة رئيسية (عثمان بيومي)، ترافقنا منذ بدايته في سلم الحياة الوظيفية حتى نهايته، وتفتح بابًا كبيرًا للتساؤل عن قيمة الطموح، ومعنى النجاح، وعبثية الحياة في ظل النمط البيروقراطي.
إذا كانت رواية "السراب" ترصد الفشل العاطفي، و"اللص والكلاب" ترصد التمرد، فإن "حضرة المحترم" ترصد الطموح المفرط حين يتحول إلى غاية تبتلع الإنسان ذاته. هذه الرواية هي مرآة تعكس وجوهًا عديدة للبيروقراطية، والأنانية، والفراغ الوجودي، دون أن تبتعد عن بساطة نجيب محفوظ الواقعية.
خلفية الرواية وبنيتها السردية
الرواية تتخذ شكلًا سرديًا خطيًا، حيث تبدأ من يوم تعيين البطل "عثمان بيومي" موظفًا في إحدى الوزارات، وتنتهي يوم تقاعده، مرورًا برحلته الطويلة في السلم الإداري، التي استغرقت أكثر من 35 عامًا.
المكان الرئيسي للأحداث هو "الوزارة"، التي لا يُذكر لها اسم محدد، ما يعطيها طابعًا رمزيًا عامًا. الزمن يمتد من ثلاثينيات القرن العشرين إلى ما بعد الستينيات، لكن الزمن في الرواية لا يمثل أحداثًا سياسية واضحة، بل هو خلفية لحياة داخلية جامدة ورتيبة لبطل لا يتحرك إلا صعودًا في الوظيفة.
الشخصية المحورية: عثمان بيومي
الحلم: أن أكون "حضرة المحترم"
عثمان بيومي شاب طموح، ينتمي إلى الطبقة المتوسطة الدنيا، فقد والده في سن مبكرة، وقرر أن يشق طريقه في الحياة من خلال الترقي الوظيفي، دون الالتفات لأي مسار آخر. منذ تعيينه موظفًا صغيرًا، يضع نصب عينيه هدفًا واحدًا: أن يصبح وكيل وزارة، أي أن يصل إلى مقام "حضرة المحترم".
بالنسبة لعثمان، الوظيفة ليست وسيلة لكسب العيش فحسب، بل هي محور الوجود. يتعامل مع السلم الإداري كأنه طقس مقدس، يعبده كما يعبد البعض الدين أو الفن أو الوطن.
التضحية بكل شيء من أجل الصعود
لتحقيق هذا الهدف، يتخلى عثمان عن كل شيء:
-
الحب: يرفض الزواج من حبيبته الوحيدة، لأنها "فقيرة" ولن تفيده اجتماعيًا.
-
الأصدقاء: يتجنب الصداقات الحقيقية، ويرتبط فقط بعلاقات نفعية داخل الوزارة.
-
المواقف: لا يتخذ أي موقف أخلاقي في حياته، يتعامل بمرونة مع كل ما يضمن استمرار صعوده.
إنه رجل يقدس النظام، ويخاف التغيير، ويتعامل مع الناس حسب مراتبهم فقط، وليس كأفراد. وفي كل مرة يحصل فيها على ترقية، يشعر بلذة النصر، لكن فراغًا داخليًا يتسلل إليه، فيرفض الاعتراف به.
رمزية الشخصية
عثمان بيومي ليس مجرد موظف؛ إنه رمز لفكرة الطموح الميكانيكي. هو إنسان فقد ذاته في سبيل صورة ذهنية صنعها عن "النجاح". يرى في الوصول إلى "حضرة المحترم" نهاية الحياة المثالية. لكنه، كما يظهر لاحقًا، يصل ولا يجد شيئًا.
الكرسي الكبير لا يمنحه سعادة، بل يسقط في دوامة الوحدة والعزلة.
الوزارة: مسرح العبث الإداري
الوزارة التي يعمل بها عثمان بيومي ليست سوى نموذج مصغر للبيروقراطية المصرية والعربية. عالم مغلق، تتحكم فيه العلاقات لا الكفاءة، ويتقدم فيه المنافقون لا المخلصون.
تتغير الإدارات، وتتغير الأنظمة، لكن القاعدة واحدة: من يلعب اللعبة، يربح.
في هذا السياق، ينجح عثمان لأنه يمتلك فن التملق، والسكوت، والتموضع، لكنه يدفع ثمنًا باهظًا: فقدان إنسانيته.
التحوّل الداخلي للبطل
كلما صعد عثمان درجة في السلم، تغير داخليًا:
-
في البداية كان شابًا حالمًا، متحمسًا، منضبطًا.
-
ثم أصبح انتهازيًا، ساخرًا، روتينيًا.
-
وفي النهاية، يتحول إلى قشرة بلا جوهر، لا يعيش إلا في مذكراته، ولا يتحدث إلا مع مرآته.
يصل إلى قمة المجد الوظيفي، فيُحال إلى المعاش، فيكتشف الحقيقة القاسية: لقد ظل طوال عمره يركض نحو وهم.
الوحدة والموت الرمزي
بعد إحالته إلى التقاعد، يعود عثمان إلى منزله، لا أحد ينتظره، لا أبناء، لا زوجة، لا صديق. يفتح مذكراته، التي كان يكتب فيها تفاصيل رحلته كوثيقة لانتصاره، لكنه لا يجد فيها حياة.
يدخل في عزلة مميتة، ثم يموت فجأة في نهاية الرواية، موتًا يشبه موته الروحي قبل سنوات. الموت هنا ليس فقط نهاية جسدية، بل تجسيد رمزي لنهاية حلم عبثي.
القضايا والرموز في الرواية
1. الطموح والفراغ
الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا:
هل الطموح بدون روح يساوي النجاح؟
عثمان بيومي ينجح في الوصول إلى القمة، لكنه يفشل في الحياة ذاتها. لم يعش الحب، ولم يعرف الجمال، ولم يعش لحظة صدق.
2. الوجودية والعبث
تُصنّف الرواية ضمن الأدب الوجودي، إذ تعبر عن العبثية التي يعيشها الإنسان المعاصر حين يحصر ذاته في هدف مادي.
عثمان بيومي هو إنسان فقد حريته واختياراته، وترك نفسه للسير في مسار واحد دون مساءلة، ليكتشف متأخرًا أن كل شيء كان بلا معنى.
3. البيروقراطية كمطحنة
الرواية تُدين البيروقراطية التي تفرغ الإنسان من ذاته، وتجعل حياته عبارة عن أوراق ومكاتب، لا عن أحلام وتجارب.
الأسلوب الأدبي
نجيب محفوظ في هذه الرواية يعتمد على أسلوب مكثف، جاف أحيانًا، لكنه مناسب تمامًا لطبيعة الموضوع.
يغيب الوصف المفرط، وتختفي الحوارات الطويلة، ليحل محلها الوصف الداخلي والتحليل النفسي.
الرواية قصيرة، لكنها عميقة جدًا، وتمتاز بسلاسة السرد وتركيزها على التطور الداخلي للشخصية أكثر من الأحداث الخارجية.
رواية "حضرة المحترم" ليست فقط قصة موظف صعد إلى القمة، بل هي محاكمة شاملة لقيم المجتمع الحديث، الذي يقيس الإنسان بما يملك لا بما هو عليه.
إنها دعوة لإعادة النظر في معاني النجاح والطموح، والتفكير في السؤال الذي تهرب منه الرواية حتى نهايتها
هل كنتَ حيًا حقًا وأنت تحقق كل ذلك؟
نجيب محفوظ يمنحنا تحفة أدبية تمزج بين الرمزية والواقعية، تجعلنا نعيد التفكير في مفهوم "الاحترام" ذاته: هل هو ما نراه في المناصب؟ أم ما نملكه في القلوب؟
0 تعليقات