Governing the Commons: The Evolution of Institutions for Collective Action
"حكم المشاعات: تطور مؤسسات الفعل الجماعي" لإلينور أوستروم
كسر القالب النظري السائد
يُمثل كتاب "حكم المشاعات" (1990) نقطة تحول أساسية في فهمنا لكيفية إدارة المجتمعات للموارد المشتركة مثل المراعي، ومصائد الأسماك، وقنوات الري، والغابات.
قامت إلينور أوستروم بتحدي النماذج النظرية السائدة التي كانت ترى أن الموارد المشتركة محكوم عليها بالفشل إما بتحولها إلى ملكية خاصة أو بفرض سيطرة حكومية مركزية عليها.
اعتمدت أوستروم على منهجية تجريبية صارمة، حيث درست عشرات الحالات الواقعية من مختلف أنحاء العالم حيث نجحت المجتمعات المحلية في إدارة مواردها المشتركة بشكل مستدام على مدى عقود بل وقرون.
هدفت من خلال ذلك إلى تطوير إطار تحليلي لفهم الشروط التي تمكن الأفراد من ابتكار مؤسسات فعالة للحكم الذاتي، متجاوزة بذلك "معضلة العمل الجماعي" و"تراجيديا المشاعات".
الجزء الأول: تفكيك النماذج التقليدية (المعضلة الثلاثية)
تبدأ أوستروم بتحليل النماذج النظرية التي هيمنت على التفكير في قضية الموارد المشتركة، والتي تسميها "النماذج المجازية" أو "النماذج الثلاثة المحبطة":
"تراجيديا المشاعات" (تراجيديا المشاع): Popularized by Garrett Hardin، يفترض هذا النموذج أن كل مستفيد فردي، مدفوعًا بالمصلحة الشخصية العقلانية، سيزيد من استغلاله للمورد المشترك (مثل إضافة المزيد من الماشية إلى المرعى) حتى يتم استنزافه بالكامل. النتيجة الحتمية هي تدمير المورد الذي يعتمدون عليه جميعًا. الحل الذي يقترحه هاردين هو إما الخصخصة (تحويل المورد إلى ملكيات فردية) أو التحكم المركزي (سيطرة الحكومة).
معضلة السجين (Prisoner's Dilemma): في هذا النموذج، يظهر أن التعاون يؤدي إلى أفضل نتيجة جماعية، لكن الخيانة (أي عدم التعاون) هي الاستراتيجية المهيمنة لكل فرد بغض النظر عما يفعله الآخرون. هذا يؤدي إلى نتيجة دون المثلى للجميع.
مشكلة راكب مجاني (Free-Rider Problem): في حالة توفير سلعة جماعية (مثل صيانة قناة الري)، سيميل الأفراد إلى الاستفادة من الجهد الذي يبذله الآخرون دون المساهمة بأنفسهم، مما يؤدي إلى عدم توفير السلعة أو تدهورها.
تشير أوستروم إلى أن هذه النماذج، رغم قوتها التبسيطية، تعاني من قيود كبيرة:
افتراض الثبات: تفترض أن القواعد ثابتة ولا يمكن للمشاركين تغييرها.
إغفال التواصل: تتجاهل قدرة الأفراد على التواصل والتوصل إلى اتفاقات.
عدم وجود ثقة ومعايير: لا تأخذ في الاعتبار دور الثقة والأعراف الاجتماعية والمعايير الأخلاقية في تشكيل السلوك.
افتراض التجانس: تعامل جميع الأفراد على أنهم متشابهون في أهدافهم وقدراتهم.
النتيجة التي تصل إليها هي أن هذه النماذج، رغم أنها تصف حالات صعبة، لا تحكم على جميع المواقف. فهي لا تفسر النجاحات الواقعية العديدة لإدارة المشاعات.
الجزء الثاني: نماذج ناجحة من أرض الواقع
لبّ قلب حجة أوستروم، حيث تقدم سلسلة من الدراسات التفصيلية لحالات نجحت في إدارة مواردها المشتركة بشكل مستدام:
أنظمة الري في إسبانيا (Huertas): نظام "Tribunal de las Aguas" في بلنسية، وهو محكمة مائية تقليدية تدير قنوات الري منذ قرون بقواعد واضحة وعادلة ويحترمها جميع المزارعين.
مراعي الجبال في سويسرا (Törbel): قرى سويسرية تدير مراعيها الجبلية المشتركة منذ مئات السنين من خلال جمعيات للمستخدمين تحدد عدد الماشية المسموح به لكل عائلة، وتنظم مواعيد الرعي، وتنفذ عمليات الصيانة.
مصائد الأسماك في تركيا (Alanya): نظام محلي لتخصيص مواقع الصيد في البحر للصيادين بطريقة عادلة ومتناوبة، مما يقلل النزاعات ويضمن استدامة المخزون السمكي.
أنظمة الري في الولايات المتحدة (California, Texas, Colorado): جمعيات مستخدمي المياه التي تدير أنظمة الري المعقدة بقواعد متفق عليها محليًا وعقوبات للمخالفين.
من خلال تحليل هذه الحالات وغيرها، تثبت أوستروم أن الحلول "من أعلى إلى أسفل" (الحكومية) أو "من السوق" (الخصخصة) ليست الحلول الوحيدة الممكنة، وغالبًا ما تكون أقل كفاءة من الحلول المحلية.
فالمستخدمون أنفسهم، الذين لديهم معرفة عميقة بالنظام البيئي والمصلحة المباشرة في استدامته، قادرون على تطوير مؤسسات حكم ذاتي فعالة.
الجزء الثالث: مبادئ التصميم لمؤسسات فعل جماعي ناجحة
هذا هو الإسهام النظري الأبرز للكتاب. بعد تحليل الحالات الناجحة، استخلصت أوستروم ثمانية "مبادئ للتصميم" تميز المؤسسات الدائمة والمستقرة لإدارة المشاعات. هذه المبادئ ليست قواعد صارمة، بل هي سمات مشتركة تشرح سبب نجاحها:
حدود واضحة المعالم (Clearly Defined Boundaries): يجب أن تكون حدود المورد المشترك (من له الحق في الاستخدام) ومجموعة المستخدمين المصرح لهم معروفة ومحددة بوضوح. لا مكان للغموض في من يمكنه الاستفادة.
التناسب بين الفوائد والتكاليف (Proportionality Between Benefits and Costs): يجب أن تكون القواعد التي تحدد حصة كل مستخدم من المورد (مثل كمية المياه، أو مساحة الرعي) متناسبة مع مساهماته في تحمل التكاليف (مثل الصيانة، والمراقبة). هذا يخلق شعورًا بالعدالة.
ترتيبات صنع القرار الجماعي (Collective-Choice Arrangements): يجب أن يكون معظم الأفراد المتأثرين بالقواعد قادرين على المشاركة في تعديلها. هذا يضمن أن القواعد تعكس الظروف المحلية وتكتسب شرعية واسعة.
المراقبة (Monitoring): يجب مراقبة سلوك المستخدمين فيما يخص الالتزام بالقواعد. والأهم من ذلك، أن المراقبين يكونون إما من المستخدمين أنفسهم أو مسؤولين أمامهم، مما يزيد من فعالية وكفاءة المراقبة.
العقوبات المتدرجة (Graduated Sanctions): يجب أن تفرض عقوبات على المخالفين.
العقوبات تكون متدرجة (تحذيرات، ثم غرامات بسيطة، ثم حرمان من الحقوق) وليست قاسية من البداية. الهدف هو تصحيح السلوك وليس الإقصاء.آليات حل النزاعات منخفضة التكلفة (Conflict-Resolution Mechanisms): يجب أن تكون هناك آليات سريعة ومنخفضة التكلفة وسهلة الوصول لحل النزاعات التي تنشأ بين المستخدمين، أو بين المستخدمين والمسؤولين. غالبًا ما تكون هذه الآليات محلية وغير رسمية.
الاعتراف الدائم بالحقوق التنظيمية (Minimal Recognition of Rights to Organize): يجب أن تحترم السلطات الحكومية الخارجية (على المستويين المحلي والوطني) حق المستخدمين في وضع قواعدهم الخاصة وإدارة مواردهم. بدون هذا الاعتراف، يمكن لأي قرار حكومي أن يدمر المؤسسة المحلية.
الحكم المتداخل (Nested Enterprises - for larger CPRs): بالنسبة للموارد المشتركة الكبيرة والمعقدة (مثل نظام نهر كبير)، يجب تنظيم أنشطة الحكم في مستويات متعددة ومتداخلة (جمعيات محلية، اتحادات إقليمية... إلخ). كل مستوى يتعامل مع القضايا التي تتناسب مع حجمه.
تؤكد أوستروم أن هذه المبادئ ليست "وصفة سحرية" مضمونة النجاح، ولكن غياب واحد أو أكثر منها يجعل استدامة المورد المشترك أكثر عرضة للخطر.
الجزء الرابع: نحو إطار تحليلي جديد
لا تقدم أوستروم نظرية جديدة كاملة، بل إطارًا تحليليًا لدراسة كيفية تفاعل الأفراد في مواقف العمل الجماعي. المكونات الأساسية لهذا الإطار هي:
قواعد العمل (Rules): وهي ليست القوانين الرسمية فقط، بل تشمل القواعد غير الرسمية، والمعايير، والإستراتيجيات التي يتبعها الأفراد. وهي التي تشكل الحوافز.
السياق المادي (Physical World): الخصائص الطبيعية للمورد (كقابليته للتجدد، وحدوده، وقابليته للرصد) تؤثر بشكل كبير على نوع المؤسسات التي يمكن تطويرها.
سمات المجتمع (Community Attributes): ثقافة المجتمع، مستوى الثقة بين أفراده، رأس المال الاجتماعي، والتجارب السابقة مع التعاون كلها عوامل حاسمة.
الفكرة المركزية هنا هي أن الأفراد ليسوا سجناء في هيكل حوافز ثابت. بل هم مشاركون نشطون قادرون على تغيير القواعد، وإعادة تشكيل الحوافز، وتعلم من أخطائهم، وابتكار حلول مبدعة للمشاكل التي تواجههم. إنهم "بناو مؤسسات".
الجزء الخامس: التطبيقات والتوصيات العملية
بناءً على هذا التحليل، تقدم أوستروم توصيات عملية للمشرعين والمنظمات الدولية والجهات المانحة:
تجنب التبسيط المفرط: يجب التوقف عن افتراض أن هناك نموذجًا واحدًا (السوق أو الدولة) ينطبق على جميع المواقف.
دعم المؤسسات المحلية: بدلاً من فرض حلول جاهزة من الخارج، يجب على الحكومات والمنظمات تمكين المجتمعات المحلية ومساعدتها على تطوير وتقوية مؤسساتها الخاصة.
التعلم من خلال التشخيص: يجب أن يبدأ أي تدخل بتشخيص دقيق لطبيعة المورد، وخصائص المجتمع المستخدم، والمؤسسات القائمة بالفعل.
التدخل على مستويات متعددة: يجب تصميم السياسات لتكون "متعددة المستويات"، مع إعطاء الحكم المحلي مساحة كبيرة للعمل ضمن إطار قانوني داعم من الحكومة المركزية.
الخاتمة: الأهمية المستمرة والإرث
يعد كتاب "حكم المشاعات" عملًا تأسيسيًا في مجالات الاقتصاد المؤسسي، والعلوم السياسية، والإدارة البيئية. أهم إسهاماته:
كسر ثنائية "الدولة مقابل السوق": أظهرت أوستروم أن هناك مساحة واسعة للحكم الذاتي والمؤسسات الجماعية التي يمكن أن تكون أكثر كفاءة واستدامة.
إعادة الثقة في القدرة البشرية على التعاون: ركزت على دور البشر كعناصر فاعلة ومبتكرة قادرة على حل مشاكلهم بشكل تعاوني، متحدية النظرة التشاؤمية "للتراجيديا".
الجمع بين النظرية والتطبيق: استخدمت منهجية قائمة على دراسة الحالات الواقعية لبناء نظرية قوية ومتينة.
توفير أدوات عملية: قدمت مبادئ التصميم الثمانية كدليل عملي للمجتمعات وصناع السياسات لتقييم وتحسين مؤسسات إدارة المشاعات.
في عالم اليوم، حيث تتفاقم أزمة الموارد الطبيعية وتصبح قضايا مثل تغير المناخ وإدارة المياه العالمية أكثر إلحاحًا، تظل الدروس المستفادة من كتاب إلينور أوستروم أكثر أهمية من أي وقت مضى.
إنها تذكرنا بأن حلول هذه المشاكل المعقدة لن تأتي فقط من التكنولوجيا أو من الحكومات المركزية، ولكن من قدرة المجتمعات على التنظيم الذاتي، والتعلم، والتعاون على أساس من المعرفة المحلية والمؤسسات المصممة بحكمة
0 تعليقات