"كفاح طيبة" لنجيب محفوظ
السياق التاريخي والأدبي للرواية
"كفاح طيبة" (1944) هي الرواية الثالثة في الثلاثية التاريخية لنجيب محفوظ بعد "عبث الأقدار" (1939) و"رادوبيس" (1943). تدور أحداثها في مصر الفرعونية إبان غزو الهكسوس (قوم من آسيا) للشمال المصري، حيث تصور نضال أهل طيبة (جنوب مصر) لتحرير الأرض. كتبها محفوظ في مرحلة مبكرة من مسيرته، مُستلهِمًا التاريخ كمرآة لمقاومة الاحتلال البريطاني في عصره، فجسّد مقولة: "الشعب الخامل يحمل في أعماقه بذرة الثورة" . تُعد الرواية من أبرز الأعمال التي اختارتها صحيفة "إل موندو" الإسبانية كواحدة من أهم روايات القرن العشرين عالميًا .
١. الحبكة الروائية: الصراع بين الحرية والاستعباد
تبدأ الأحداث برسالة تهديد من الملك الهكسوسي "أوفيس" إلى الملك المصري "سِكِنن رَع" حاكم طيبة، يطالبه فيها:
قتل أفراس النهر المقدسة في النيل.
منع ارتداء تاج الشمال رمز السيادة.
بناء معبد للإله "ست" (إله الهكسوس) .
تُمثِّل هذه المطالب إهانة للكرامة المصرية، فتُشعل فتيل الثورة. يرفض سكنن رَع الخنوع، ويُقتل في معركة غير متكافئة، ليتولى ابنه "كاموس" ثم حفيده "أحمس" قيادة الجيش. تُصوِّر الرواية مراحل الكفاح: من الإعداد السري للجيش، وصنع السفن والأسلحة، إلى المعارك الضارية التي تنتهي بطرد الهكسوس، مُبرزةً مقولة محفوظ: "إن الحرب إذا لم تكن لغاية تستوجبها، صارت تقتيلًا وتذبيحًا" .
٢. الشخصيات: بين البطولة والصراع الإنساني
أ. أحمس: البطل المُضحي
هو المحرر الذي يجسد القيادة الملهمة، لكن محفوظ يُعمق شخصيته عبر صراعه الداخلي. يُقعده حب "نِفْرُت" ابنة الملك الهكسوسي، فيضطر للتضاقة بعاطفته لإيمانٍه بأن "الظلم يُسيء إلى النفوس العادلة جميعًا" .
ب. الشخصيات النسائية: رمز الصمود
توتيشيري: جدة أحمس، الحكيمة التي تحفظ جذوة الثورة وتُلهب حماس الجنود بقولها: "ليحيا من يبقى منا أعز حياة، وليمت من يموت أشرف ميتة" .
نِفْرُت: ابنة العدو، ترمز لـإنسانية تتجاوز العداوة.
نباتا: الفتاة الشعبية التي تجسد دور المرأة في النضال عبر تدريب الرجال وإمداد الجيش .
ج. الهكسوس: صورة المستعمر
يُصوِّرهم محفوظ كقوة غاشمة تحتقر الشعب وتستغل ثرواته، في إسقاط واضح على الاستعمار البريطاني.
٣. البناء الفني: المزج بين التاريخ والأدب
أ. توظيف التاريخ كإطار درامي
اعتمد محفوظ على أحداث تاريخية موثقة، مثل:
غزو الهكسوس لمصر (حوالي 1650 ق.م).
معركة تحرير أفاريس (عاصمة الهكسوس في الدلتا).
لكنه أضاف عناصر درامية كقصة الحب العابرة للحدود، ليبث الروح في الشخصيات .
ب. الوصف الدقيق للحضارة الفرعونية
يُحيي الرواية بـتفاصيل غنية:
مشاهد المعابد (كمعبد آمون حيث يُعلن سكنن رَع الثورة).
طقوس الحياة اليومية.
التنظيم العسكري (السفن، العجلات الحربية).
مما يجعل التاريخ "يشُخُّ على الصفحات" .
ج. اللغة: بين الفخامة والسلاسة
تتسم لغة محفوظ بـأسلوب كلاسيكي يليق بالملاحم، لكنه يظل سلسًا، كوصفه لمشهد الاستعداد للحرب:
"دقت طبول الرحيل، فانتظم الجيش فرقًا، ورفع الأسطول مراسيه" .
٤. الأبعاد الرمزية والوطنية
أ. إسقاطات على الواقع المعاصر
كتب محفوظ الرواية أثناء الاحتلال البريطاني (1882–1952)، فجعل من تحرير طيبة نبوءةً بتحرير مصر، قائلاً:
"أردت أن أقول إن الشعب الذي حرر نفسه قديمًا، قادر على تكرار ذلك" .
وهو ما يُذكر برواية توفيق الحكيم "عودة الروح" (1931) التي تربط نهضة الأمة بـ"القائد الجامع" .
ب. فلسفة الثورة والهوية
تطرح الرواية أسئلة جوهرية:
متى ينتفض المستضعفون؟
كيف يُوازن القائد بين العاطفة والمسؤولية؟
ما حدود التسامح مع المُحتل؟
تجيب بأن الكرامة هي المحرك، وأن التضحية هي الثمن .
٥. مكانة الرواية في سياق أدب محفوظ
المرحلة التاريخية: تُعد "كفاح طيبة" ذروة هذه المرحلة، حيث سبقت تحول محفوظ للواقعية (1945) عبر روايات مثل "القاهرة الجديدة" .
الجسر نحو العالمية: أظهرت مقدرته في تحويل التاريخ المحلي لدرس إنساني شامل، وهو ما مهّد لفوزه بنوبل عام 1988 .
التجريب السردي: مزج بين السرد التقليدي وتيار الوعي في تصوير الصراعات النفسية، كتأملات أحمس بين الحب والواجب .
الرواية كمرآة للأمل المتجدّد
"كفاح طيبة" ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي بيان مقاومة ونصب تذكاري لروح الشعب التي لا تُقهَر. عبر شخصية أحمس، يؤكد محفوظ أن البطولة ليست في الانتصار العسكري فقط، بل في التضحية بالأنا لصالح الجماعة. واليوم، بعد أكثر من 80 عامًا على نشرها، تظل الرواية حاضرة كدليل على أن "ذكريات الدنيا سجل اللذة والألم" ، وأن كفاح الشعوب هو اللذة الأبقى.
"إن السفن والعجلات تنقلب مقابر لمن عليها، إذا لم تدفعها قلوب أشد صلابة من حديدها" .
ملحق: معلومات النشر والمراجع
الناشر الأصلي: دار الشروق.
عدد الصفحات: 257 صفحة.
متاحة مجانًا على: مؤسسة هنداوي .
نسخة مختصرة للشباب: صدرت لاحقًا بعنوان "كفاح أحمس
0 تعليقات