ما وراء النهر

 


 "ما وراء النهر" لطه حسين


السياق التاريخي والفني للرواية

صدرت رواية "ما وراء النهر" عام ١٩٧٥، بعد عامين من رحيل عميد الأدب العربي، لتُشكل علامة فارقة في مسيرته الإبداعية. كتبها طه حسين في مرحلة متأخرة من حياته، مُستلهماً فيها هموم المجتمع المصري والعربي، لكن بتقنيات سردية مبتكرة تجعل القارئ شريكاً في بناء النص. تدور الرواية حول صراع طبقي مرير في قرية مصرية (رغم إنكار الكاتب صراحةً أن تكون الأحداث في مصر)، حيث يستعرض الظلم الذي يُمارسه أصحاب النفوذ والمال ضد الفقراء، مع تركيب فلسفي يعكس رؤية الكاتب للحياة كصراع أبدي بين المتناقضات .


١. التحليل الاجتماعي: تشريح طبقي في قفص الرواية

  • ثنائية الظالم والمظلوم:
    تصور الرواية قريةً يعيش سكانها في "شظف العيش"، بينما يحتكر الإقطاعي "رءوف" وعائلته خيرات الأرض. الفلاحون هنا "أحرار في الظاهر، رقيق في الحقيقة" – كما يصفهم طه حسين – يعيشون على فتات السادة، بلا أمل في التملك أو التحرر .

  • علاقة الحب المستحيلة:
    تشكل قصة الحب بين "نعيم" (ابن الإقطاعي) و"خديجة" (الفتاة الفقيرة) نقداً لاذعاً للحدود الطبقية. قتل أخو خديجة لها عقاباً على "تجاوز الواقع" يُعد إدانةً للمجتمع الذي يحول الحب إلى جريمة، ويرسخ فكرة أن الخروج على التراتبية الاجتماعية يعني الموت .

  • التبرير الفلسفي للاستغلال:
    يقدم الكاتب على لسان الشخصيات تبريراتٍ للتفاوت الطبقي، مثل: "لولا الفقر ما كان الغنى، ولولا البؤس ما كان النعيم" . هذه المقولات تُعرّي خطاب الطبقات المهيمنة التي تتخذ من "الطبيعي" ذريعةً لإدامة الظلم.


٢. البنية الفنية: ثورة على السرد الكلاسيكي

  • كسر الإيهام وتفعيل القارئ:
    يرفض طه حسين أن يكون "خادماً للقراء" أو أن يُقدم لهم عملاً جاهزاً. بدلاً من ذلك، ينشئ علاقة "زمالة" مع القارئ، يدعوه فيها لبدء القصة ومُتابعتها والاختلاف حولها. هذه التقنية – المُستلهمة من مسرح بريخت – تحوّل النص إلى مساحة تفاعلية، حيث يُكمِل القارئ الفراغات عبر تأويله .

  • التناص مع الواقع والهروب منه:
    رغم أن الرواية تُعدُّ نقداً لمجتمعٍ مصريٍّ يعيش التمايز الطبقي، يُصرّ الكاتب على أن أحداثها تقع في "ربوةٍ بإسبانيا"، وليست على شاطئ النيل. هذا التهرب المُبالغ فيه – الذي يثقل النص بوصفٍ مطول للربوة – يُفسَّر كمحاولةٍ للالتفاف على الرقابة أو الخوف من مواجهة النظام .

  • اقتصاد لغويٌّ يحمل كثافةً درامية:
    رغم حجم الرواية القصير، تنجح في تقديم حبكةٍ معقدةٍ عبر لغةٍ مُكثفة. يُميز النقاد قدرة طه حسين على حشد التفاصيل الجوهرية في مساحةٍ ضيقة، مع الحفاظ على إيقاعٍ سرديٍّ جذاب .

جدول: تقنيات السرد المبتكرة في الرواية

التقنيةالوظيفة الفنيةالأثر على القارئ
الحوار المباشر مع القارئكسر الإيهام السرديتحويله إلى شريك في البناء الفكري
الوصف المتكرر للمكانتكريس فكرة "التهرب من الواقع"إثارة الشك في دلالات النص الخفية
الإيجاز اللغويتقديم دراما مركزة دون إسهابخلق نصٍّ كثيفٍ ومتعدد التأويلات

٣. الجدل النقدي: بين الإصلاح والاستسلام

  • اتهام طه حسين بالتطبيع مع الظلم:
    يرى بعض النقاد – مثل رائد الحواري – أن الرواية تُقدّم دعوةً غير مباشرةٍ لـ"إبقاء الحياة كما هي". فوصف الفلاحين بأنهم "ليسوا راضين ولا ساخطين" يُفرغ الصراع الطبقي من مضمونه الثوري، ويُلبسه ثوب "الحتمية الطبيعية" .

  • الدفاع عن الرؤية الإصلاحية:
    في المقابل، يؤكد آخرون أن مجرد فضح الآلية القمعية – كما في مشهد استذلال الفلاحين – يمثل فعل مقاومة. تصوير مأساة خديجة هو صرخة ضد القمع، حتى لو لم يُقدّم الكاتب حلولاً ثورية .

  • ثنائية المثقف والواقع:
    يُظهر طه حسين تناقض المثقف العالق بين انحيازه للفقراء وارتباطه بطبقة النخبة. الشاعر (الراوي) يندّد بالظلم لكنه يرفض الثورة، قائلاً: "ما دامت الحياة مسيرة لي كأحسن ما يكون اليسر فلا علي أن أكون سيداً أو عبداً" .


٤. الأبعاد الرمزية والفلسفية

  • النهر كحدٍّ وجودي:
    يحمل العنوان دلالةً ميتافيزيقيةً تجاوز الجغرافيا. "ما وراء النهر" قد يكون عالم العدل المفقود، أو الحقيقة المستحيلة، أو حتى الموت نفسه. النهر هنا فاصلٌ بين عالم الظلم الواقعي وعالم العدل المتخيل .

  • الربوة: استعارة للعزلة الطبقية:
    القصر القائم على ربوةٍ عاليةٍ هو استعارةٌ ماديةٌ للانفصال الطبقي. الارتفاع هنا ليس طوبوغرافياً فحسب، بل اجتماعيٌ يكرس اغتراب السادة عن عالم "الطين الغليظ" الذي يعيش فيه الفلاحون .

  • العمى كرمزٍ معرفي:
    رغم أن الرواية لا تذكر عمى البطل، إلا أن بعض القراءات تُلمّح إلى أن استخدام أفعال السمع دون البصر ("لم أسمع عن ربوة كهذه") إشارةٌ إلى كفاف طه حسين. لكن العمى هنا قد يكون رمزاً لعمى البصيرة المجتمعي تجاه الظلم .


٥.  الرواية كمرآةٍ لتجديد الأدب والمجتمع

"ما وراء النهر" ليست مجرد رواية عن الصراع الطبقي؛ إنها بيانٌ أدبيٌّ يرفض الانحباس في قوالب السرد التقليدية. طه حسين – الذي أثار الجدل بـ"في الأدب الجاهلي" – يُكرّس هنا رؤيته للأدب كفعلٍ تحريضيٍّ يتحدى الثوابت الفنية والاجتماعية. الرواية، برغم إيجازها، تطرح أسئلةً لا تزال ملحةً عن العدالة والحرية ودور المثقف. لقد سبقت زمانها بتقنياتها التفاعلية، وكأنها تُخاطب قارئ القرن الحادي والعشرين: "الظلم لا يحتاج إلى توصيفٍ جديد، بل إلى قرّاء جدد يملؤون الفراغات بأفعالهم".


 الإرث النقدي للرواية

المحور النقديالاتجاه المؤيدالاتجاه المعارض
الموقف من الظلمفضح الآلية الطبقية هو شكل من المقاومةالتوصيف يُطبع مع الواقع ولا يدعو للتغيير
الابتكار السرديتفعيل القارئ يُحدث ثورةً في التلقيكسر الإيهام يُضعف الانغماس الدرامي
دور المثقفتصوير تناقضاته يُعد نقداً ذاتياًانحيازه غير كافٍ لتمثيل صوت المظلومين

تُظهِر هذه الثنائيات أن "ما وراء النهر" – بعد نصف قرن – لا تزال قادرةً على إثارة النقاش، وهو ما يؤكد أنها نجحت في صنع "نهرها" الذي يعبر به طه حسين إلى أبديته الأدبية



أقرأ أيضاَ

ملخصات كل أعمال الاديب والمفكر طة حسين

إرسال تعليق

0 تعليقات