"الأيام" لطه حسين
سيرة الصمود والإبداع
رائعة السيرة الذاتية العربية
رواية "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين (1889–1973) تُعدُّ علامةً فارقةً في الأدب العربي الحديث، لا كسيرة ذاتية فحسب، بل كوثيقةٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ ونفسيةٍ تكشفُ تحدِّي الإعاقة وصراعَ التحديث في المجتمع المصري أوائل القرن العشرين. كُتِبَت بأسلوبٍ أدبيٍّ راقٍ، وُصِفَ بـ"كسر الإيقاع" و"بلاغة الصمت" للتعبير عن المشاعر المعقَّدة . نُشرت أجزاؤها الثلاثة متفرقةً قبل أن تجمع في كتاب واحد (الطبعة الأولى 1992) .
الجزء الأول: طفولة في ظلام الصعيد (الولادة - 1902)
النشأة في قريبة "الكيلو" بمحافظة المنيا:
وُلد طه في أسرةٍ فقيرةٍ ضمت 13 طفلاً (كان سابعهم)، يعمل الأب موظفًا بسيطًا في شركة السكر .
أصيب بالرمد في الرابعة ففقد بصره، لكنَّ ذكاءه الحادٍّ وحافظته القوية عوَّضتا عن الإعاقة، فحفظ القرآن في كُتَّاب القرية .
المعاناة النفسية والوعي المبكر بالاختلاف:
شعرَ بـ"المكانة الخاصة" المُربكة بين إخوته: عطفٌ زائدٌ من الأم، وحذرٌ مُشوبٌ بالازدراء من الإخوة، وإهمالٌ متقطِّعٌ من الأب .
حوادث مؤلمة كشفتَ عزلةَهُ: مثل حادثة "أخذ اللقمة بكلتا يديه" على المائدة، التي أثارت ضحك إخوته وبكاء أمه، فقيدت حركته ودفعته للانطواء .
حوَّلَ إحساسه بالنقص إلى إرادةٍ قاهرة: امتنع عن أطعمةٍ تحتاج ملعقةً (كالحساء) خوفًا من السخرية، واتجه للاستماع إلى القصص والأناشيد الدينية ليشغلَ فراغه .
الجزء الثاني: الأزهر.. معركة التحرر الفكري (1902 - 1914)
الصدمة الأولى في القاهرة:
وصلَ طه إلى الأزهر عام 1902 وهو يحمل صورةً مثاليةً عنه، لكنَّ الواقعَ قسا عليه: مناهجُ جامدةٌ، وشيوخٌ يُكرِّسون الحفظَ على حساب الفهم، وصراعاتٌ سياسيةٌ طغت على العلم .
تمرده على التقليد:
انتقدَ رواية الأزهر للعلم، واصفًا إياه بـ"الصحون المليئة بالضوضاء" .
تأثُّرُه بأساتذة مجددين مثل الشيخ المرصفي الذي فتح عينيه على آداب اللغة (كـ"الكامل" للمُبَرِّد) .
التحقَ بالجامعة الأهلية (1908) طلبًا للتنوير، فدرس التاريخ والفلسفة، ونشر مقالاتٍ نقديةً هزت الأوساط المحافظة .
الجزء الثالث: فرنسا.. رحلة النور والعلم (1914 - 1919)
الاصطدام بالغربة والانتصار عليها:
سافرَ ضمن بعثةٍ دراسيةٍ إلى فرنسا بعد رفضٍ متكرر، لكنَّ صعوباتٍ ماليةً أرغمته على العودة المؤقتة .
واجهَ تحدي اللغة والثقافة، فانكبَّ على الدراسة حتى أتقنَ اللاتينية واليونانية، وحصل على دكتوراه من السوربون عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" .
سوزان: رفيقة الإلهام:
التقى الطالبة الفرنسية سوزان التي قرأت له النصوص، فتزوجها عام 1917، واصفًا إياها:
"بدونك أشعر أني أعمى حقًّا.. أما وأنا معك فأتوصل إلى الشعور بكل شيء" .
ساعدته في تجاوز عزلته، فكانت عينيه وقارئته وسنده النفسي والعلمي .
تحليل القيمة الأدبية والاجتماعية للرواية
الأسلوب: شعرية السرد والصدق النفسي:
وظَّفَ طه حسين "الصمت" كأداةٍ بلاغيةٍ للتعبير عن الوحدة، و"التكرار" لربط فصول السيرة .
مزجَ بين السرد الموضوعي والتداعي الذهني، فجعل القارئَ يعيشُ تجاربه من خلال التفاصيل الحسية (أصوات، روائح، لمس) .
النقد الاجتماعي الجريء:
كشفَ عن تناقضات الريف المصري: تدينٌ يخالطه شعوذة، تضامنٌ مجتمعي يقابله قسوةٌ على "الضعفاء" .
هاجمَ الجمودَ الفكري للأزهر، داعيًا إلى تبني مناهجَ حديثةٍ تستندُ إلى النقد والتحليل .
رسالة إنسانية خالدة:
قدمت الروايةُ نموذجًا للتحدي: إرادةُ الإنسان تُحول الإعاقةَ إلى طاقة إبداع .
سلطت الضوءَ على أخطاء التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، داعيةً إلى تجنب "الشفقة المُذِلَّة" .
إرثٌ أدبيٌّ وحضاريٌّ
"الأيام" ليست سيرةً شخصيةً فحسب، بل هي مرآةٌ لتطور المجتمع المصري من قيود التخلف إلى آفاق الحداثة. طه حسين – من خلال تجربته – يقدم درسًا في:
قوة الإرادة التي حوَّلت طفلًا ضريرًا إلى أستاذٍ للجامعة ورائدٍ للتنوير.
دور العلم كسلاحٍ لمقاومة الجهل والجمود.
أهمية الدعم الإنساني (كما جسَّدته سوزان) في صنع النجاح .
"أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفون في قراءة هذا الحديث تسليةً عن أثقال الحياة.. وتشجيعًا لاستقبالها بابتسام"
— طه حسين .
بهذه الكلمات، يختزلُ عميدُ الأدب العربي جوهرَ رائعته: سيرةُ ألمٍ تتحول إلى منارةِ أملٍ لكلِّ إنسانٍ يواجهُ الظلامَ بنورِ الإصرار
أقرأ أيضاَ
0 تعليقات