بلايغراوند Playground

 


"بلايغراوند" لريتشارد باورز: رحلة بين أعماق المحيطات وذكاء الآلات

عالم باورز حيث العلم يصادق الأدب

"بلايغراوند" (Playground) هي الرواية الرابعة عشرة للكاتب الأمريكي ريتشارد باورز، الحائز على جائزة البوليتزر عن روايته السابقة "The Overstory". صدرت هذه الرواية في سبتمبر 2024 عن دار "نورتون"، وحققت صداً نقدياً واسعاً، حيث رُشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر 2024 . تدمج الرواية بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي، مستكشفةً أربعة محاور رئيسية: الذكاء الاصطناعي، التهديدات البيئية للمحيطات، إرث الاستعمار، وطبيعة الصداقة الإنسانية. تدور أحداثها بين شيكاغو وجزر بولينيزيا الفرنسية، في حبكة معقدة تذكرنا بأسلوب باورز في نسج الخيوط السردية المتشابكة.


الشخصيات الرئيسية: أربعة وجوه لتجربة إنسانية واحدة

  1. إيفي بولييو (Evie Beaulieu): عالمة محيطات فرانكو-كندية، مستوحاة جزئياً من شخصية سيلفيا إيرل الرائدة في هذا المجال. تبدأ قصتها في الخمسينيات عندما تغوص في حوض سباحة بمعدات تنفس مبكرة، لتصبح لاحقاً رمزاً للدفاع عن البيئة البحرية. تواجه التمييز الجنسي في الأوساط العلمية، لكنها تترك إرثاً عبر كتابها للأطفال "Clearly It Is Ocean" الذي يلهم شخصيات أخرى في الرواية .

  2. تود كين (Todd Keane): ملياردير التكنولوجيا المصاب بالخرف الجسديّ (Lewy body dementia). من خلفية ثرية في إيفانستون (إلينوي)، يبتكر منصة "بلايغراوند" الاجتماعية التي تجمع بين فيسبوك وريديت، مع اقتصاد قائم على "بلايباكس" (Playbucks). روايته للقصة تكون عبر حديثه مع ذكاء اصطناعي يُدعى "بروفوندا" (Profunda) .

  3. رافي يونغ (Rafi Young): شاب أسود من جنوب شيكاغو الفقير، يواجه تحديات عائلية وصدمة وفاة أخته. يصادق تود في المدرسة الثانوية عبر الشطرنج، ثم يقدّمه لعبة "غو" الصينية. يدرس الأدب ويؤمن بنظرية "إحياء الموتى" للفيلسوف نيكولاي فيودوروف، ما يجعله محوراً للموازنة بين الإنسانيات والتقنية .

  4. إينا أرويتا (Ina Aroita): فنانة من جزر المحيط الهادئ، تربّىّها على القواعد البحرية جعلت الفن ملاذها الوحيد. تتزوج رافي لاحقاً وتعيش معه في جزيرة ماكاتيا، حيث تتبنى طفلين .


الإطار الجغرافي: جزيرة ماكاتيا كرمز للصراع العالمي

ماكاتيا، جزيرة صغيرة في بولينيزيا الفرنسية يقل سكانها عن 100 نسمة، تصبح مسرحاً للصراع المركزي في الرواية. استُغلت تاريخياً في التعدين الفوسفاتي الذي دمر بيئتها، والآن تواجه اقتراحاً من اتحاد تقني أمريكي لتحويلها إلى قاعدة لـ"المدن العائمة" (Seasteading) – جزر اصطناعية تطفو في المحيط. يُعرض على سكانها ثروة مالية مقابل الموافقة، لكن القرار يصبح معضلة أخلاقية:

  • الرفض يعني الحفاظ على البيئة مع استمرار الفقر ونقص الخدمات الطبية.

  • القبول يجلب الثروة لكنه يعيد إنتاج الاستعمار الجديد تحت غطاء التقدم.

"أفضل أن تكون صياداً فقيراً من أن تصبح عاملاً غنياً" – أحد سكان ماكاتيا .


الثيمات الرئيسية: لعبة الحياة بين التدمير والإبداع

1. الصداقة كمعركة وجودية

علاقة تود ورافي تمثل قلب الرواية:

  • يلتقيان في مدرسة "سانت إغناطيوس" للنخبة، حيث يكتشفان في ألعاب الذكاء (الشطرنج ثم "غو") ملاذاً من عائلاتهما المفككة.

  • في الجامعة، يدرس تود علوم الحاسب بينما يدرس رافي الأدب، لكن صداقتهما تنهار عندما تُكشف مشاعر تود غير المعلنة لإينا .

  • لعبة "غو" (Go) ذات الحجارة البيضاء والسوداء تصبح استعارة للعلاقة بين الرجلين: التوازن، الصراع، والاعتماد المتبادل .

2. المحيط: جنة مفقودة أم مستقبل البشرية؟

وصف باورز للحياة البحرية يُعد تحفة أدبية:

  • إيفي تكتشف تحت الماء "ملعباً أعظم مما حلم به أي طفل"، حيث تتلاعب بالأخطبوطات وتسبح مع أسماك الفراشة.

  • المشاهد الغوّاصة في مايكرونيزيا، حيث تتحول حطام السفن الحربية إلى شعاب مرجانية، تُظهر مرونة الطبيعة لكن أيضاً تهديدات التلوث البلاستيكي والاحتباس الحراري .

  • باورز ينتقد "الاستثنائية البشرية" (Human Exceptionalism) التي تجعلنا ننكر تشابهنا مع الكائنات البحرية .

3. الذكاء الاصطناعي: الخلاص أم الخراب؟

منصة "بلايغراوند" لتود هي نقد لاذع لوسائل التواصل الاجتماعي:

  • تحوّل التفاعل البشري إلى "لعبة" تجمع النقاط، مما يخلق اقتصاداً وهمياً يسيطر على مليارات المستخدمين.

  • "بروفوندا"، المساعد الذكي الذي يُرسل إلى ماكاتيا للإجابة عن أسئلة السكان، يكشف تناقضاً: فهو أداة "حيادية" لكنه مصمم لخدمة مصالح الشركات .

  • الرواية تطرح أسئلة وجودية: هل يمكن للذكاء الاصطناعي إحياء الموتى؟ هل سيكون نهاية البشرية؟ .

4. الاستعمار الجديد تحت عباءة التقدم

مشروع "المدن العائمة" في ماكاتيا يُعرض كصورة معاصرة للاستغلال:

  • الشركات الأمريكية تقدم وعوداً بالثراء، لكن تاريخ الجزيرة مع التعدين يثبت أن الثروات تُسلب دون تعويض حقيقي.

  • السكان الأصليون، ممثلين بإينا وكبير البلدية، يواجهون معضلة ديمقراطية: التصويت بين الخوف من التدمير البيئي والأمل في الخلاص الاقتصادي .


المفاجأة السردية: عندما يصبح القارئ جزءاً من اللعبة

في الفصل قبل الأخير، يقلب باورز توقعات القارئ رأساً على عقب:

  • تود، عبر سرده بضمير المتكلم، يُكشف أنه يتحدث إلى "بروفوندا" طوال الوقت، محاولاً الحفاظ على ذكرياته قبل أن يمحوها الخرف.

  • الأقسام الثالثة (بضمير الغائب) عن إيفي، رافي، وإينا، هي في الواقع قصة من نسج الذكاء الاصطناعي، بناءً على ذكريات تود ومعلومات عامة.

  • الحقيقة المروعة: إيفي ماتت في السبعينيات أثناء الغوص، ورافي توفي مؤخراً بنوبة قلبية. ماكاتيا "الموازية" هي عالم بديل صنعه الذكاء الاصطناعي ليعيد تود إلى أصدقائه .

في هذا العالم الافتراضي:

  • تود يصل إلى ماكاتيا على يخت ذاتي القيادة، ويموت بعد لحظات.

  • إينا ترث ثروته، وتستخدمها لتمويل مشاريع بيئية تحمي المحيطات.

  • يُدفن تود في البحر مع أحد منحوتات إينا، في مشهد يجسد المصالحة النهائية بين البشر والتقنية والطبيعة .

"نصنع أشياءً نأمل أن تكون أكبر منا، ثم نحزن عندما يحدث ذلك" – تود .


الأسلوب الأدبي: حيث العلم يصبح شعراً

  • لغة الشاعر والعالم: باورز يدمج المصطلحات العلمية (مثل "بروتينات ألفا-ساينوكلين") مع صور شعرية (كالشفاه المرجانية التي "تتمايل كبطاقات عيد ميلاد").

  • البنية المعقدة: تنتقل الرواية بين خطوط زمنية متعددة (أربعينيات القرن العشرين → 2020s)، وجهات نظر متنوعة، لخلق نسيج سردي يشبه لعبة "غو" في تعقيدها.

  • النقد الذاتي: بعض المراجعات تشير إلى أن حوارات رافي (بين العامية واللغة الأكاديمية) قد تبدو مصطنعة أحياناً، لكنها تخدم ثيم التناقض الثقافي .


 هل يمكن للعب أن ينقذنا؟

"بلايغراوند" ليست مجرد رواية عن التهديدات البيئية أو مخاطر الذكاء الاصطناعي؛ إنها تأمل عميق في الجوهر الإنساني. باورز يقترح أن:

  • اللعب (في العلوم، الفن، الألعاب) هو ما يدفعنا للإبداع، لكنه يصبح خطراً عندما يتحول إلى هوس بالسيطرة.

  • المحيطات، بوصفها "الحديقة الأخيرة" للكوكب، تذكرنا بأن التقدم يجب أن يكون متوازناً مع التواضع إزاء الطبيعة.

  • التقنية قد تُفقدنا إنسانيتنا (كما في منصة بلايغراوند) أو تعيدها لنا (كما في قصة بروفوندا التأملية) .

الرواية تنتهي بسؤال مفتوح: في لعبة الحياة المعاصرة، هل نختار أن نربح على حساب الآخرين والطبيعة، أم أن نستمر في اللعب بطريقة تحفظ التوازن؟ جمال "بلايغراوند" يكمن في رفضها للإجابات السهلة، وتقديمها صورةً للعالم حيث الأمل والتحذير يتعايشان كأمواج المحيط.

"إذا أردت أن تجعل شيئاً ما أكثر ذكاءً، علّمه أن يلعب" – إيفي بولييو .



إرسال تعليق

0 تعليقات