الفن كعلاج آلان دو بوتون وجون أرمسترونج


 

الفن كعلاج

 رؤية ثورية لدور الفن في شفاء النفس الإنسانية 

 آلان دو بوتون وجون أرمسترونج

 إعادة تعريف الفن بعيداً عن النخبوية

في كتابهما الثوري "الفن كعلاج" (2013)، يقدم الفيلسوف آلان دو بوتون والمؤرخ الفني جون أرمسترونج نموذجاً مغايراً لفهم الفن.

 مبتعدين عن النظريات الجمالية التقليدية التي تهيمن على النقد الفني. 

يرى المؤلفان أن الفن ليس مجرد أداة للتزيين أو الترفيه الفكري، بل أداة علاجية نفسية تعوض نقاط الضعف الكامنة في العقل البشري وتساعدنا على مواجهة تحديات الحياة اليومية .

"الفن مثل أي أداة أخرى، لديه القوة لتمديد قدراتنا بما يتجاوز ما منحته لنا الطبيعة. إنه يعوّضنا عن نقاط الضعف النفسية الفطرية" .

 لماذا نحتاج الفن كعلاج؟

  • نقد المؤسسة الفنية التقليدية: يهاجم دو بوتون فكرة "الفن لأجل الفن" التي تجعل الفن منفصلاً عن حياة الإنسان اليومية، ويدعو إلى تحويل المتاحف إلى "صيدليات نفسية" تقدم أعمالاً فنية تلبي احتياجات روادها العاطفية .

  • الجذور الفكرية: يستند الكتاب إلى تراث فلسفي يشمل سيغموند فرويد (فكرة التسامي) وأرسطو (وظيفة الفن التطهيرية)، مع إضافة بعد عملي يربط الفن بمشكلات مثل القلق والوحدة وفقدان المعنى .

  • السياق الشخصي للمؤلف: دو بوتون (مواليد 1969)، السويسري-البريطاني، معروف بمشاريعه مثل "مدرسة الحياة" التي تهدف إلى جعل الحكمة الفلسفية في متناول الجمهور العام. كتابه هذا امتداد لمساعيه في ربط الفلسفة بالحياة اليومية .


الوظائف السبع للفن: دليل علاجي شامل 

1. التذكر: مقاومة النسيان وإحياء الجوهر

  • المشكلة النفسية: ذاكرة الإنسان انتقائية وعرضة للتحريف، مما يجعلنا نخاف من نسيان ما يهمنا حقاً.

  • الحل الفني: يخلق الفن "أطراً" تحفظ التجارب الإنسانية الجوهرية.

  • مثال: لوحات الطبيعة الصامتة في القرن الـ17 (مثل أعمال جان دافيدز دي هيوم) توثق تفاصيل الحياة اليومية التي قد تبدو تافهة لكنها تحمل قيمة عاطفية عميقة.

2. الأمل: مواجهة التشاؤم بالجمال

  • المشكلة النفسية: النخبة الفنية غالباً ما تحتقر الأعمال "الجميلة" (كالمناظر الطبيعية والزهور) باعتبارها ساذجة، لكن دو بوتون يرى أن هذه الأعمال ضرورة للبشر المنهكين.

  • الحل الفني: الفن الجميل يذكرنا بوجود الجانب المشرق في الحياة دون إنكار المعاناة.

  • مثال: لوحة "الراقصات" لهنري ماتيس لا تنكر آلام العالم، بل تقدم نموذجاً للبهجة والتعاون البشري الذي يمكن أن يلهمنا.

"كلما كانت حياتنا أصعب، زادت قدرة تصوير الزهور على تحريك مشاعرنا. الدموع هنا استجابة للجمال وليس للحزن" .

3. الحزن: كرامة المعاناة المشتركة

  • المشكلة النفسية: المجتمع الحديث يخجل من الحزن ويعزز الوحدة في المعاناة.

  • الحل الفني: الفن يمنح شرعية للحزن ويذكّرنا بأنه جزء طبيعي من الحياة.

  • أمثلة:

    • "النساء في السينما" لإدوارد هوبر: امرأة وحيدة في صالة سينما مظلمة، تعكس العزلة في وسط الجماعة.

    • "نان غولدين": صورها للتواقيع الجنسية في الثمانينيات أعطت صوتاً لمن كانوا منبوذين، قائلة: "أراك كما تريد أن تُرى" .

4. إعادة التوازن: علاج الاختلال النفسي

  • المشكلة النفسية: الإنسان كائن غير متوازن (مفرط في الجدية أو السخرية، مثلاً).

  • الحل الفني: ننجذب للأعمال التي تعوض ما ينقصنا.

  • مثال"ليلة النجوم" لفان جوخ تقدم غموض الطبيعة وجمالها، وهو ما تفتقده الحياة الحديثة الميكانيكية. دو بوتون نفسه يفضّل التصاميم البسيطة لأن حياته مليئة بالفوضى .


5. فهم الذات: الفن كمرآة للهوية

  • المشكلة النفسية: صعوبة الإجابة عن سؤال "من أنا؟" بالكلمات فقط.

  • الحل الفني: الفن يعبر عما لا نستطيع وصفه.

  • مثال: لوحات مارك روثكو التجريدية تسمح للمشاهد بوضع حزنه الخاص فيها، فيشعر بأنه أقل وحدة .

6. النضج: توسيع الأفق عبر تجارب الآخرين

  • المشكلة النفسية: التحيز ورفض المختلف.

  • الحل الفني: الفن كنز للإنسانية يجعلنا نختبر ثقافات وحضارات متنوعة.

  • مثال: روايات تشيخوف تقدم شخصيات معقدة تعلمنا التعاطف مع تناقضات البشر .

7. التقدير: استعادة البهجة في التفاصيل الصغيرة

  • المشكلة النفسية: الإعلام يلهينا بالمبالغة في تقدير حياة المشاهير ويجعلنا نزدري حياتنا العادية.

  • الحل الفني: الفن يركز على جمال التفاصيل اليومية.

  • مثال: لوحات الطبيعة لجون كونستابل تذكرنا بجمال السماء التي نراها كل يوم ولا نلتفت إليها .


 كيف نستخدم الفن علاجياً؟

إعادة تصميم المتاحف والمعارض

يقترح دو بوتون تحويل المتاحف إلى صيدليات نفسية من خلال:

  • التجميع حسب المشاعر: معارض للحب، الخسارة، الأمل، إلخ.

  • نصوص تفسيرية جديدة: بدلاً من السيرة الفنية، تركيز النصوص على كيفية تطبيق العمل على مشكلات المشاهد.

  • التجربة الرائدة: متحف ريكز في أمستردام طبق أفكار الكتاب عام 2014، وعرض لوحات مثل "حاملو الرسائل" لجان فيرمير تحت عنوان "كيف تتحمل المسؤولية؟" .

الفن في الحياة اليومية

  • البيت: اختيار أعمال تعوض النقص النفسي (لوحات طبيعة لمن يعيش في مدينة مزدحمة).

  • العمل: وضع صور تذكرنا بقيم مهمة (كالصدق أو الإبداع).

  • الفضاء العام: الدعوة لاستبدال الإعلانات التجارية بأعمال فنية تخفف القلق .


 بين التبسيط والعبقرية

  1. اختزال الفن إلى "أدوات": اتهمه نقاد بأنه يحول الفن إلى "أدوات مساعدة ذاتية" تفقده غموضه وعمقه .

  2. تجاهل السياق التاريخي: التركيز على الوظيفة العلاجية قد يمحو السياق الثقافي للأعمال (مثال: لوحات كارافاجيو العنيفة لم تُقيم حسب قيمتها الفنية بل حسب قدرتها على "لمس الروح") .

  3. دفاع عن الرقابة: فقرة مثيرة للجدل يدعو فيها لفرض رقابة على الإعلانات والتلفزيون لأنها "تعيق المعرفة الذاتية"، مما اعتبر تناقضاً مع تحررية الفن .

الرد على الانتقادات:

  • دو بوتون يبرر أن هدفه ليس إلغاء النقد الفني التقليدي، بل إضافة طبقة جديدة تجعل الفن في متناول غير المتخصصين .

  • مشروع "مدرسة الحياة" (الذي أسسه دو بوتون) يقدم دورات مثل "كيف تفهم مشاعرك عبر الفن" كتطبيق عملي لأفكاره .


 الفن كمنقذ للروح في عصر القلق

يظل "الفن كعلاج" كتاباً مثيراً للجدل لكنه ضروري، لأنه يذكرنا بأن قيمة الفن ليست في سعره أو شهرة فنانيه، بل في قدرته على:

  • ترميم النفس الإنسانية عبر تعويض نقصها.

  • خلق حوار بين الذات والعالم بعيداً عن النخبوية.

  • مواجهة أمراض العصر مثل العزلة وقلق المكانة .

"الفن الجيد هو الذي يلتقط جوهر الأشياء المهمة، بينما الفن السيء يترك الجوهر يضيع... الفن إطار يضم تجاربنا الهاربة" .

في زمن يزداد فيه الضغط النفسي وتعصف به الأزمات، يقدم دو بوتون وأرمسترونج وصفة بسيطة: انظر إلى الفن بعين جديدة، ليس كتحفة مقدسة، بل كـ "حبة أسبرين" للروح

إرسال تعليق

0 تعليقات