كنيسة الغراب لأليف شافاق

 


 "كنيسة الغراب" لأليف شافاق

 سيمفونية الذاكرة والمنفى

 الغراب كحارس للأسرار

تتجاوز رواية "كنيسة الغراب" (2013) لأليف شافاق مفهوم السرد التقليدي لتصبح متحفاً للذاكرة المنسية وقبراً للأسرار المدفونة. 

تدور الأحداث بين قبرص وتركيا وإنكلترا، ناقشةً جراح الحرب القبرصية (1974) والصراع التركي-الأرمني عبر عيون شخصيات منكوبة بالمنفى.

 تنسج شافاق حكايتها حول "أسكر كازانتزي" الفنان القبرصي التركي المنفي في لندن، و"أبي" الفتاة القبرصية اليونانية التي تبحث عن جذورها الضائعة، في تشابك مأساوي يعكس تقاطعات الهوية والضياع.

 الغراب هنا ليس مجرد طائر، بل شاهدٌ على التاريخ وحارسٌ للحكايات الممنوعة، رمزاً للحدود الضبابية بين الموت والحياة، الصمت والكلام .


  أصوات من هوامش التاريخ

١. أسكر كازانتزي: النار تحت الرماد

فنان تشكيلي قبرصي تركي يعيش في لندن، يحمل جراح طفولة قاسية خلال الحرب: والده مفقود، أمه منتحرة، وهو ناجٍ من حريق مروع ترك ندوباً جسدية ونفسية. تحولت لوحاته إلى "مقابر لألم لا يُقال"، حيث يرسم بالملح والرماد بدلاً من الألوان، مخلّداً ذكريات مدينة فاماغوستا المحتلة. شخصيته تجسد مفهوم "الهامشية" الذي يتحدث عنه محمد معتصم في "المتخيل المختلف" - ذلك الصوت المنسي الذي يكسر قناع المجتمع المتأنق .

٢. أبي (أفثيميا): البطلة الساردة

فتاة قبرصية يونانية نشأت في لندن بعد هجرة والدتها "ديفني" من قبرص. تكتشف فجأة أن أمها ليست أمها البيولوجية، فتبدأ رحلة البحث عن الحقيقة التي تقودها إلى أسكر وإلى ماضي الجزيرة الدموي. صوتها السارد هو خيط النسيج الروائي، يحمل نقاءً يضاد قسوة العالم، مثل بطل رواية "صوت الغراب" الذي يملأ فراغه بالضجيج ليداري صمته الداخلي .

٣. خريستو مانوليس: الشاهد الصامت

طبيب قبرصي يوناني عاشق للحياة، يروي حكايته بعد الموت من داخل تابوت! صوته الأشبه بـ "همس الأرواح" يقدم منظوراً فريداً للمأساة، كشاهد على الحب المستحيل بين أفراد الطائفتين المتناحرتين. حضوره يذكرنا بـ "الرجل الأسمر" في الرواية العراقية التي يشير إليها باسم سليمان - شخصية تبحث عن وجودها في فجوات التاريخ .

٤. ديفني ويمنيش: الأم-اللغز

والدة أبي بالتبني، تحمل أسراراً ثقيلة عن الحرب ومخيمات اللاجئين. شخصيتها تمثل آلاف النساء اللواتي دفن أحلامهن تحت أنقاض الصراعات، وكما تقول شافاق في مذكراتها: "أحياناً يكون الصمت أعلى صرخة".

 تحليل الشخصيات الرئيسية:

الشخصيةالهويةالرمزيةالصراع الداخلي
أسكر كازانتزيفنان قبرصي تركيالندبة التي لا تلتئمالعجز عن تجاوز الماضي
أبي (أفثيميا)قبرصية يونانيةالبحث عن الجذور الضائعةالتناقض بين الحقيقة والأكاذيب
خريستو مانوليسطبيب قبرصي يونانيصوت الضمير المنسيالحب المحرم عبر الحدود
ديفني ويمنيشأم بالتبنيحامية الأسرارالصراع بين الكتمان والتحرر

 عوالم المكان: فاماغوستا كجثة معمارية

١. فاماغوستا المحرمة: المدينة الأشباح

تتحول مدينة فاماغوستا (قبرص) إلى شخصية رئيسية في الرواية. بعد الغزو التركي (1974)، أُغلقت منطقة "فاروشا" المسيجة، لتصبح "مدينة أشباح" محرمة الدخول، حيث تتحول الفنادق الفاخرة إلى خراب تزحف عليه النباتات البرية. تصف شافاق هذه المساحة كـ "تابوت معماري" شاهدة على زمن متجمد، مما يعكس مفهوم "سجن الذاكرة" الذي يتناوله محمد معتصم في تحليله لـ "متخيل المعتقل" .

٢. لندن: منفى اللامنتمين

المدينة التي تستقبل المنفيين لا تعطيهم وطناً، بل "غرفة انتظار وجودية". شقق أسكر الباردة ومخبأ ديفني في سرداب البدروم يرمزان إلى استحالة الاندماج الحقيقي. هنا تلتقط شافاق إحساس المهاجر الذي وصفه بطل "صوت الغراب": "كنت مقيداً على نحو لم أفهمه"، في إشارة إلى اغتراب الهامشيين .

٣. كنيسة الغراب: حاضنة الأسرار

المكان الأكثر غموضاً هو الكنيسة المهجورة حيث يعيش الغراب الأسطوري. في الثقافة القبرصية، الغراب ليس نذير شؤم بل "حارس الحكايات". الكنيسة ترمز إلى التقاء الأضداد: مقدس/مدنس، حياة/موت، ذاكرة/نسيان. تصميمها الدائري يشير إلى استحالة الهروب من الماضي - فالدائرة لا بداية لها ولا نهاية.


تشريح الثيمات: جراح لا تندمل

١. الهوية كسجون متخيلة

تسائل الرواية فكرة الهوية الثابتة: هل أسكر "تركي" لأنه مسلم؟ هل أبي "يونانية" لأنها مسيحية؟ تشير شافاق إلى أن الحرب حوّلت الهويات إلى "خناجر ثقافية". هذا يتوافق مع رؤية "المتخيل المختلف" في كشفه كيف "يغوص في أزقة الوجود بتناول حياة شخصيات بائسة آتية من السكن العشوائي" .

٢. اللغة كملاذ أخير

تستخدم شافاق اللغة كحقل معركة:

  • التركية: لغة الجلاد في ذاكرة اليونانيين

  • اليونانية: لغة الضحية في رواية الأتراك

  • الإنجليزية: لغة المنفى التي تقطع الجذور
    لكنها تخلق أيضاً "لغة ثالثة" عبر الفن: لوحات أسكر بالملح، موسيقى أبي، حتى صمت خريستو يصبح لغة قائمة بذاتها.

٣. الأمومة المعطوبة

الأمومة في الرواية جرح مفتوح: ديفني تخفي سر أبي، والدة أسكر تنتحر بعد فقدان زوجها، أبي تبحث عن أمها البيولوجية. شافاق تظهر كيف تدمر الحروب حتى أكثر الروابط قدسية، محوّلة الأمهات إلى "حارسات مقابر للذاكرة".

٤. الفن كطقس مقاومة

لوحات أسكر ليست فناً بل "طقوساً شامانية" لاستدعاء الموتى. استخدامه الملح (رمز العهد والدمار في الكتاب المقدس) والرماد (أثر النار والحريق) يحول الفن إلى "مقاومة بالجمال". هنا تلتقي شافاق مع فكرة إليف شافاق نفسها في مذكراتها "حليب أسود" التي تذكر فيها أنها تكتب "لتغرق ضجيجها الداخلي" .


 البنية السردية: سيمفونية الأصوات المقطوعة

١. تعدد الأصوات الساردة

  • أبي: سرد بصيغة المتكلم (الأنا) - صوت الحاضر الباحث عن الحقيقة

  • خريستو: سرد من داخل التابوت - صوت الموتى الذين لم يُدفنوا

  • الراوي العليم: يربط خيوط الماضي في فاماغوستا

هذا التعدد يخلق "تأويلاً متعدداً" كما يشير بول ريكور، حيث "لا أمكانية لمعنى واحد" .

٢. الزمن المتشظي

لا تسير الأحداث خطياً بل كقطع فسيفساء:

  • 1940-1974: حقبة الحرب في قبرص

  • 2000-2010: زمن المنفى في لندن

  • الوقت الأسطوري: حكايات الغراب التي تتجاوز التاريخ

التشظي يعكس استحالة رواية المأساة كسرد متصل، وكما يقول بطل "صوت الغراب": "فقدت عالم البيت القديم" .

٣. الرموز المتعالقة: شعرية الغياب

  • الغراب: ليس طائراً بل "ذاكرة مجنحة" تحمل رسائل الموتى

  • البيضة الزرقاء: رمز الحياة الهشة التي يحرسها الغراب، تشير إلى قبرص الجزيرة/الجنين

  • الملح: دموع الأرض المتجمدة، مادة تطهير ودمار في آن

  • النار: ترمز إلى التطهير والتدمير - حرق المنازل، حريق مرسم أسكر، حريق الذاكرة


 الأسلوب واللغة: نسيج من الظلال والنور

١. لغة شعرية متعددة المستويات

تستخدم شافاق:

  • الاستعارة المركبة: "ذاكرته بحرٌ تجمدت أمواجه" (لوصف صمت أسكر)

  • التكرار الإيقاعي: تكرار كلمات "الملح"، "النار"، "الأجنحة" كموتيفات موسيقية

  • المفارقة: "أعظم كراهية تولد من أعظم حب" (وصف العلاقة بين الطائفتين)

٢. الحوارات كمسرحيات صامتة

حوارات الشخصيات قلقة، متقطعة، مليئة بعلامات الحذف (...) كأن الكلمات تخجل من الخروج. في المشاهد المحورية (كمواجهة أبي وديفني) يتحول الصمت إلى "بطل غير مرئي".

٣. الوصف التعبيري

وصف شافاق للوجوه يستخدم التشبيهات السوريالية:

  • "وجنتا ديفني كخريطتين باليتين من حروب قديمة"

  • "ندوب أسكر كطرق سريعة رسمتها دموع لم تسقط"

هذا يتوافق مع أسلوب إليف شافاق التي تقول إنها تكتب وسط الضجيج لأن "الصخب يغرق ضجيجها الداخلي" .


 السياق التاريخي والأدبي: صدى الجراح الجماعية

١. جذور المأساة القبرصية

الرواية توثق أحداثاً حقيقية:

  • 1963: اشتباكات طائفية

  • 1974: الغزو التركي وانقسام الجزيرة

  • 1977: تأسيس جمهورية شمال قبرص التركية
    شفافاق تسجل معاناة الضحايا من الجانبين، مماثلة لما يصفه محمد معتصم في "متخيل السجن" عن كتابة "كيف يصبح السجن ملجأً من عنف الخارج" .

٢. الحوار مع النصوص الأخرى

الرواية تشتبك مع:

  • "العطر" لباتريك زوسكيند: في استخدام الحواس (الملح بدلاً من العطر)

  • "مئة عام من العزلة": في تصوير الحرب كلعنة عائلية

  • "كائن لا تحتمل خفته": في فلسفة العودة الأبدية

٣. صوت المرأة في أدب الشتات

تندرج الرواية في سياق أدب المرأة المشرقي (مثل سناء أبو شرار وسلوى النعيمي اللتين ذكرهما باسم سليمان). شافاق تقدم صوتاً نسوياً لا ينتمي لـ "أدب الضحية" بل لأدب "المقاومة بالذاكرة" 2.


 لماذا نقرأ "كنيسة الغراب" اليوم؟

رواية أليف شافاق ليست حكاية عن قبرص، بل مرآة مكسورة تعكس كل مجتزأ من العالم. في زمن يعيد فيه الشرق الأوسط إنتاج صراعاته بلغة طائفية جديدة، تذكرنا شافاق بأن:

"الحدود بين الجلاد والضحية رقيقة كورقة التوت... والمنفي الحقيقي هو من يحمل وطنه كجرح في جيبه"

الرواية تحقق ما قاله الناقد محمد معتصم عن الأدب الحقيقي: "كسر قناع المجتمع المتأنق وفضح دواخله" . الغراب هنا ليس مجرد طائر، بل ضمير العالم الساكن.


التحليل البلاغي في مقاطع مختارة

١. وصف حريق فاماغوستا:

"كانت النيران تتكلم بلهجة لم نعرفها... لسانٌ أزرق يلعق الذكريات، وأنيابٌ حمراء تمضغ صور الأطفال على الجدران"

  • الاستعارة المكنية: النار ككائن حي ("تتكلم"، "تَلعَق"، "تمضغ")

  • التصوير الحسي: دمج البصر (الألوان) مع السمع (لهجة النار)

  • المفارقة: جمال اللغة ضد بشاعة الوصف

٢. حوار أسكر مع الغراب:

"قلت له: أنت حر لأنك تطير... فأجاب بصوتي: بل أنت حر لأنك تذكر"

  • التكرار المعكوس: لعبة لفظية بين "حر" و"تذكر"

  • الإيجاز المخل: حكمة مكثفة في جملة واحدة

  • التشخيص: تحويل الغراب إلى حكيم


 بيضة الغراب التي لا تنكسر

في النهاية، تتركنا شافاق أمام لغز البيضة الزرقاء التي يحرسها الغراب: هل هي قبرص؟ الجنين الضائع؟ أم الإبداع نفسه الذي يولد من الرماد؟ كما يقول خريستو الميت:

"الحقيقة ليست نوراً يبهر العينين... بل ظلاً يلاحقك حتى في غرفة مغلقة"

هذا الظل هو ما تتعقبه رواية أليف شافاق - ظل التاريخ الذي لا يفارقنا، وظل الإنسان الذي يبحث عن نور لن يجدَه إلا في عين الغراب.


إرسال تعليق

0 تعليقات