"جنكيز خان وصناعة العالم الحديث" لجاك ويزرفورد
إعادة اكتشاف إرث المغول
يقدم جاك ويزرفورد في كتابه "جنكيز خان وصناعة العالم الحديث" (2004) رؤية ثورية تُعيد تقييم دور الإمبراطورية المغولية في تشكيل الحضارة الحديثة. بدلاً من الصورة النمطية للمغول كبرابرة مدمرين.
يكشف ويزرفورد كيف أسس جنكيز خان وخلفاؤه نظاماً عالمياً شجَّع التجارة والتسامح الديني والتبادل الثقافي، مُؤسِّسين لعولمة مبكرة ربطت بين أوراسيا من الصين إلى أوروبا
. يعتمد الكتاب على مصادر غير غربية مثل "التاريخ السري للمغول" وكتابات المؤرخين الفرس جوفيني وراشيد الدين .
صعود جنكيز خان من الهامش إلى السلطة
١. الطفولة القاسية وتشكيل الشخصية
النشأة في ظل القبيلة: وُلد تيموجين (اسم جنكيز خان الأصلي) عام 1162 في مجتمع قبلي قاسٍ. بعد تسمم والده يسوغي على يد التتار، هجرتهم قبيلة "التايتشيود" تاركة إياه وعائلته يواجهون المجاعة في البرية. هذه التجارب علّمته البقاء والتعامل مع الخيانة .
خطف بورته: تَجسَّدت وحشية المجتمع القبلي عندما اختُطفت زوجته بورته من قبل قبيلة ميركيت. تحالف تيموجين مع صديقه جاموقا وأونغ خان (زعيم قبيلة كيريت) لإنقاذها، مما كشف عن قدرته على بناء التحالفات الاستراتيجية عبر الهدايا (مثل معطف السنجاب) رغم ضعف موارده .
٢. توحيد المغول: استراتيجيات القيادة الفريدة
الصراع مع جاموقا: يمثل التنافس بين تيموجين وجاموقا (صديق الطفولة الذي أصبح عدواً) صراعاً بين نظامين: الأرستقراطية الوراثية (يمثلها جاموقا) مقابل النظام الجديد القائم على الجدارة والولاء الشخصي. انتصر تيموجين عام 1206 بعد معركة دموية، وأُعلن "جنكيز خان" (الحاكم العالمي) .
دمج الشعوب المغلوبة: ابتكر نظاماً لامتصاص القبائل المهزومة مثل التتار، حيث وزع أفرادها بين وحدات المغول ومنع الهويات القبلية القديمة، مؤسساً لـ"هوية مغولية" موحدة فوق القبلية .
أسس الإمبراطورية – الابتكارات العسكرية والإدارية
١. الجيش المغولي: آلة حرب غيرت التاريخ
تكتيكات الصيد على نطاق واسع: حوَّل جنكيز خان تقنيات صيد الحيوانات إلى استراتيجيات حربية، مثل "المنغود" (التراجع المُزيَّف) و"الكماشة" (التطويق). كانت سرعة حركة الفرسان (100 كم يومياً) وصبرهم (أيام دون طعام) أسلحة فتاكة .
التنظيم العشري: قسَّم الجيش إلى وحدات من 10 (آربان) و100 (زوتون) و1000 (مينغان) و10,000 (تومين)، مع ترقيات قائمة على الكفاءة لا النسب، مما عزز الانضباط .
الحرب النفسية: استخدم الترهيب بذكاء، مثل إبادة مدن كاملة إذا قاومت (مثل أورغنتش) بينما عُوملت المدن المُستسلمة بتسامح، مما شجَّع الاستسلام السريع .
٢. نظام الحكم: دولة عابرة للقارات
الياسا: الدستور العالمي: وضع جنكيز خان مدونة قانونية شملت:
إلغاء امتيازات النبلاء الوراثية.
حماية التجار والديبلوماسيين تحت "حصانة السفراء".
منع بيع النساء وتعدد الزوجات القسري .
شبكة اليام (البريد السريع): أنشأ محطات تبعد 40 كم على طرق التجارة، مكَّنت نقل البضائع والمعلومات بسرعة قياسية (رسالة من فيينا إلى بكين في 6 أسابيع)، ووُضعت تحت إدارة امرأة هي "خوتولون" .
العملة الموحدة والضرائب العادلة: فرض ضريبة ثابتة 10% على التجار، وألغى الرسوب الجمركية بين المناطق، مما فتح طرقاً تجارية آمنة من الصين إلى البحر المتوسط .
العصر الذهبي – الإرث الحضاري للإمبراطورية
١. التبادل الثقافي والعلمي
نقل الابتكارات: شجَّع المغول تبادل التقنيات عبر الإمبراطورية:
نقل البارود والطباعة من الصين إلى أوروبا.
استيراد المنسوجات الفارسية والأدوات الفلكية العربية إلى الصين.
إدخال زراعة الحمضيات والجزر إلى أوروبا .
دور النساء العالمات: تولَّت النساء مثل "تورينا خاتون" (في فارس) و"خوتولون" (في منغوليا) مناصب إدارية وعسكرية رفيعة، وقمن برعاية المراصد والمستشفيات .
٢. التسامح الديني ونمو المدن
حرية المعتقد: رفض جنكيز خان فرض دين دولة، واستضاف في بلاطه مسلمين ومسيحيين وبوذيين وطاويين. حتى أن أحد أحفاده (نقوداي خان) اعتنق اليهودية .
عواصم علمية: أسس المغول مراكز حضارية مثل:
قرة قورم (منغوليا): ضمت مسجداً وكنيسة ومرصدا فلكياً.
مراغة (إيران): احتوت مكتبة بـ400,000 مخطوطة ورصد فيها نصير الدين الطوسي حركة الكواكب .
بكين (دادو): بناها قوبلاي خان كعاصمة لسلالة يوان، وصممها المهندس المسلم "يخيل الدين" لتمثل أول مدينة عالمية، مع "المدينة المحرمة" كقلعة مغولية في قلبها .
التصدع والانهيار – عوامل السقوط
١. الانقسامات الداخلية والخلافات
صراع الخلافة: بعد موت منكو خان (1259) انقسمت الإمبراطورية بين أربع خانات (يوان، جغطاي، إلخانات، القبيلة الذهبية)، وتحارب قوبلاي وأريك بوكي، مما أوقف التوسع نحو أوروبا واليابان .
فشل جنكيز خان الأبوي: تنافس أبناؤه (جوجي، جغطاي، أوقطاي) على السلطة. أُقصي جوجي بسبب شكوك بنوّته، وتولى أوقطاي السلطة رغم إدمانه الخمر، مما أضعف الحكم المركزي .
٢. الكوارث الخارجية والتحولات
الطاعون الأسود: انتقل الفيروس من جنوب الصين إلى أوروبا عبر شبكة التجارة المغولية (1347-1351)، وقتل ثلث أوراسيا. أدى انهيار التجارة إلى أفول الإمبراطورية .
تحول الهوية: تخلت الخانات عن الهوية المغولية:
إلخانات فارس اعتنقوا الإسلام ومنعوا الياسا.
سلالة يوان في الصين طُردت عام 1368 بعد تهميشها للصينيين .
نقد الكتاب وتقييم الإرث
١. إسهامات ويزرفورد وإشكالياته
مراجعة الصورة الغربية: يكشف كيف تحولت صورة جنكيز خان في أوروبا من "الملك النبيل" (عند تشوسر) إلى "البربري المتوحش" في عصر التنوير، بسبب تحيز المصادر الأوروبية (كهولاء الكنيسة) التي كتبها النخب المهزومة .
انتقادات أكاديمية: يشير تيموثي ماي إلى أخطاء تاريخية (مثل نسب اختراعات غير دقيق) ونقص التوثيق (غياب الهوامش). بينما يمدح سيمون وينشستر "التاريخ المراجَع المدعوم بأبحاث دقيقة" .
إغفال الجانب المظلم: ينتقد باتريك ريردون تحيز ويزرفورد الإيجابي، متسائلاً: "لماذا لم يترك المغول إرثاً كالرومان؟" ويشير إلى أن إنجازاتهم زالت سريعاً كالإعصار .
٢. الإرث غير المرئي: كيف صنع المغول عالمنا؟
الاقتصاد العالمي: أنشأ المغول أول نظام مصرفي عالمي (شيكات من إيطاليا تُسحب في الصين)، ونشروا العملة الورقية، ووضعوا أسواق الأوراق المالية في بغداد .
التأثير الثقافي: كلمات مثل "هورا" (تحية مغولية) و"ترميز" (من التركية المغولية) دخلت اللغات الأوروبية. حتى معجون الأسنان وصل أوروبا عبر المغول .
توحيد الصين وروسيا: أسس قوبلاي خان حدود الصين الحديثة، بينما نظمت القبيلة الذهبية الإمارات الروسية تحت حكم مركزي، مهددة لتكوين روسيا .
نهاية السلالة: حكم أحفاد جنكيز خان حتى 1944 (السلطان سيد عليم خان في أفغانستان)، قبل أن يطاردهم السوفييت في منغوليا ويُبادوا .
بين الإعصار والبنَّاء
يخلص ويزرفورد إلى أن جنكيز خان لم يكن مجرد قائد عسكري عبقري، بل "حامل حضارة" أسس نظاماً عالمياً مبكراً قائماً على:
حكم القانون فوق الانتماءات (الياسا).
التبادل الحر للأفكار (التسامح الديني).
التكامل الاقتصادي (شبكة التجارة).
رغم انتقادات مشروعة لتحيز الكتاب، فإنه ينجح في كسر الصورة النمطية ويذكرنا بأن أعظم المحررين للحضارة قد يكونون ممن يُنعتون بـ"البرابرة".
كما قال المؤرخ بول راتشفسكي: "المغول صنعوا عالماً لم يعد فيه الشرق والغرب غريبين".
الإرث الأكبر لجنكيز خان ربما كان إثباتاً أن الحدود بين التدمير والبناء قد تكون أرق مما نتصور
0 تعليقات