"مناهج البحث عند مفكري الإسلام" للدكتور علي سامي النشار
عن الكتاب وأهميته
يُعد كتاب "مناهج البحث عند مفكري الإسلام" (واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي) للدكتور علي سامي النشار (1917-1980) عملاً مؤسساً في دراسة المنهجية العلمية الإسلامية.
نُشر الكتاب أولاً كرسالة ماجستير عام 1942 تحت إشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، ثم طُوِّر ليصبح مرجعاً أساسياً في نقد الصورة النمطية القائلة بأن الفكر الإسلامي مجرد تابع للمنطق اليوناني. يهدف الكتاب إلى إثبات أن المسلمين طوروا مناهج بحثية أصيلة تعبّر عن روح الحضارة الإسلامية، مستقاة من القرآن والسنة، وليست مجرد نسخ عن المنطق الأرسطي .
الخلفية التاريخية: انتقال المنطق اليوناني إلى العالم الإسلامي
بدايات التلقي والترجمة
الجدل الزمني: يرجح النشار أن حركة ترجمة التراث اليوناني بدأت في العصر الأموي (القرن الأول الهجري)، وليس العباسي، مستنداً إلى دلائل مثل مراسلات الخليفة الأموي مع الإمبراطور البيزنطي .
تنوع المصادر: لم يقتصر التراث المنقول على أرسطو فحسب، بل شمل:
المنطق الرواقي: خاصة في نظريات الألفاظ والاستدلال.
فلسفة الشكاك: نقد مبادئ المنطق التقليدي.
شراح الإسكندرية: كمنطق ثيوفرسطس والأفلاطونية الحديثة .
الانقسام الفكري المبكر
قسم النشار موقف المفكرين المسلمين من التراث اليوناني إلى اتجاهين:
الفلسفة المشائية: ممثلة بشراح مثل الكندي والفارابي وابن سينا، الذين اعتمدوا المنطق الأرسطي كأداة رئيسية.
الأصوليون والمتكلمون: رفضوا المنطق الأرسطي جذرياً وحاولوا بناء منطق إسلامي جديد قائم على الاستقراء والتجربة .
الأبواب الرئيسية للكتاب: تحليل ونقد
الباب الأول: المنطق الأرسطي في يد الشراح المسلمين
حلل النشار في هذا الباب كيفية تعامل الشراح المسلمين مع المنطق اليوناني، وخلص إلى:
الانقسام بين المشائيين والرواقيين:
المشائيون: قدسوا أرسطو وجمعوا شتات تراثه (مثل ابن رشد).
الرواقيون: تبنوا أفكاراً مخالفة لأرسطو (كمنطق الرواقيين) دون الإشارة لأصولها.
مباحث المنطق: بيّن أن مباحث "التصورات" (التعريف) و"التصديقات" (الاستدلال) لم تكن أرسطية خالصة، بل دمجت عناصر رواقية وسقراطية .
الباب الثاني والثالث: موقف الأصوليين والمتكلمين (جوهر الكتاب)
يُشكل هذان البابان أكثر من ثلثي الكتاب، ويعكسان رأي النشار بأن علمي أصول الفقه وأصول الدين هما مصدر المنهج الإسلامي الأصيل. تضمنت النقاط الرئيسية:
نقد المنطق الأرسطي: رفض المتكلمون مباحث الميتافيزيقا الأرسطية، واعتبروا منطقها غير متوافق مع الوحي الإسلامي .
المنهج الأصولي البديل:
الحد الأصولي: ابتكره الأصوليون كبديل للحد الأرسطي، وتميز بخلوه من الميتافيزيقا وارتباطه بالحاجات العملية للإنسان .
القياس الاستقرائي: أسس المسلمون لمنهج استقرائي تجريبي قائم على قانون العليّة وقانون الاطراد، سبقوا به العلم الحديث (مثال: تحليل العلة في الفقه عبر "السبر والتقسيم" و"تنقيح المناط") .
دور الإمام الشافعي: وصفه النشار بأنه "أرسطو الإسلام" لوضعه أسس علم أصول الفقه المستقل عن المنطق اليوناني .
الباب الرابع: المنطق الإشراقي عند السهروردي
رأى النشار أن السهروردي (مؤسس مدرسة الإشراق) قدم أعمق نقد للمنطق الأرسطي عبر:
الجمع بين العرفان والعقل: رفض القياس الصوري، واعتمد على الحدس والكشف كمصادر للمعرفة.
النقد الجذري: هاجم ميتافيزيقا أرسطو واعتبر منطقه قاصراً عن إدراك الحقائق الغيبية .
الباب الخامس: المنهج التجريبي في العلوم التطبيقية
أكد النشار أن علماء المسلمين في الكيمياء (جابر بن حيان) والفيزياء (ابن الهيثم) والطب (ابن النفيس) طبقوا منهجاً تجريبياً قائماً على:
الملاحظة والتجربة.
القياس الكمي: كاستخدام الرياضيات في تحليل الظواهر الطبيعية.
نقل المعرفة إلى أوروبا: عبر إسبانيا، مما أسهم في نشأة المنهج العلمي الحديث .
النتائج المركزية للكتاب
الرفض الجذري للمنطق الأرسطي: لم يقبله المسلمون كـ"قانون العقل المطلق"، بل هاجموه وبنوا بديلاً عنه .
المنهج الاستقرائي الإسلامي: اكتشف المسلمون المنهج العلمي التجريبي قبل فرانسيس بيكون بقرون، عبر توظيف قوانين العليّة والاطراد .
دور الحضارة الإسلامية: إسبانيا كانت الجسر الذي انتقل عبره المنهج العلمي الإسلامي إلى أوروبا، مما ينقض فكرة أن المصدر الوحيد للنهضة الأوروبية هو التراث اليوناني .
نقد الكتاب وإشكالياته
واجه الكتاب انتقادات من باحثين عدة، أبرزها:
إهمال مدارس فكرية: تجاهل مناهج أهل الحديث (كالشافعي في مسنده) وأهل الظاهر (ابن حزم)، واهتم بالأشاعرة فقط .
تناقض في تقييم الفلاسفة: هاجم "المتفلسفة" (كابن سينا) لكنه أشاد بجابر بن حيان وابن الهيثم رغم انتمائهم للمدرسة المشائية .
تحيز للمنهج الأشعري: اعتبر الأشاعرة "الممثلين الحقيقيين للإسلام"، وانتقد ابن تيمية ووصف حججه بأنها مقتبسة من الرواقيين .
تقليل شأن النقاد: وصف آراء ابن الوزير (ناقد المنطق) بأنها "خطابية"، واتهم السيوطي بعدم العمق رغم جهوده في توثيق تاريخ رفض المنطق .
تأثير الكتاب ودلالاته المعاصرة
تصحيح الصورة التاريخية: كشف زيف ادعاء المستشرقين أن الحضارة الإسلامية كانت "ذيلاً للحضارة اليونانية" .
إلهام الدراسات اللاحقة: أصبح مرجعاً أساسياً في فلسفة العلوم الإسلامية، رغم أن بعض أفكاره تحتاج تطويراً .
حوار المنهجيات: يثير الكتاب أسئلة حول إمكانية توظيف المناهج الإسلامية الأصيلة في العلوم الحديثة .
في الميزان
يظل كتاب النشار عملاً رائداً في الدفاع عن الاستقلال المنهجي للحضارة الإسلامية، لكنه يعكس أيضاً إشكاليات:
القوة: توثيقه الدقيق لجهود الأصوليين في تطوير منهج استقرائي.
الضعف: تحيزه ضد بعض المدارس (كأهل الحديث) وتناقضه في تقييم التراث الفلسفي.
رغم ذلك، يبقى الكتاب دليلاً على أن العقل الإسلامي لم يكن "وعاءً ناقلاً"، بل مبدعاً لمناهج عبّرت عن روح القرآن والسنة .
بيانات النشر
العنوان: مناهج البحث عند مفكري الإسلام
المؤلف: د. علي سامي النشار
الناشر: دار النهضة العربية (بيروت)
الطبعة: الثالثة (1984)
الصفحات: 381 صفحة
الترقيم الدولي: متاح عبر منصات مثل "نور بوك" و"دار السلام
0 تعليقات