المجتمع ضد الدولة


 

 "المجتمع ضد الدولة" لـ بيير كلاستر (Pierre Clastres)

 ثورة في الأنثروبولوجيا السياسية

 "المجتمع ضد الدولة" (1974) للأنثروبولوجي الفرنسي بيير كلاستر (1934–1977) عملاً تأسيسياً قلب المفاهيم التقليدية عن السلطة والمجتمع والدولة.

من خلال دراسته لمجتمعات أمريكا الجنوبية الأصلية (كالغواياكي في باراغواي)، يقدّم كلاستر حجةً جذريةً: المجتمعات "البدائية" ليست مرحلةً أوليةً تسبق الدولة، بل نظمٌ سياسيةٌ متعمدةٌ تمنع تمركز السلطة القسرية، متحدياً بذلك النظريات التطورية الغربية.


تفكيك أسطورة حتمية الدولة

يرفض الفكرة السائدة بأن الدولة هي "ذروة التطور الاجتماعي" للإنسان. بدلاً من ذلك، يطرح أن:

  1. المجتمعات اللادولتية (المسماة بالبدائية) معقدة ومتطورة، لكنها تختار رفض فصل السلطة عن المجتمع.

  2. السلطة موجودة لكنها غير قسرية: الزعيم ليس حاكماً بل "خادماً للجماعة"، دوره تمثيلي (مثل إلقاء الخطب وإدارة التبادل مع القبائل الأخرى).

  3. آليات دفاع اجتماعية: تطور هذه المجتمعات مؤسسات تمنع تحول السلطة إلى استغلال (مثل عزل الزعيم إذا حاول التحكم بالموارد أو البشر).

"هذه المجتمعات تُدهشنا بدقة استبصارها السياسي: إنها تدرك أن سلطة منفصلة عن المجتمع تُمثّل تهديداً للثقافة ذاتها" — كلاستر.


 السياسية البديلة

يشرح كيف تحافظ هذه المجتمعات على المساواة عبر ممارسات ثقافية تبدو "غريبة" للغرب، لكنها في الواقع أنظمة سياسية مضادة للدولة:

1. الزعيم بلا سلطة: التبادل بدلاً عن الإكراه

  • الزعيم كـ "متحدث" لا كـ "حاكم": مهمته الرئيسية هي إلقاء الخطب لتعزيز الانسجام، وليس إصدار الأوامر.

  • التزامه بالكرم: يجب أن يوزع ثرواته (طعاماً، هدايا) على الجماعة، وإلا يُعتبر بخيلاً ويُهجر.

  • العقاب سريع: إذا حاول فرض إرادته، يُهمش أو يُقتل.

2. الاقتصاد التدميري: تبادل الهدايا كسلاح ضد التراكم

  • المنافسة في الإهداء: كاليوماني (الهدايا التنافسية) تُفقر المتنافسين وتُعيد توزيع الثروة، مما يمنع ظهور طبقة مسيطرة.

  • السخرية من التراكم: يُستهزأ بمن يجمع الثروات بدلاً من توزيعها، كآلية ضبط اجتماعي.

3. الطقوس الجسدية: العلامات كذاكرة جماعية ضد الاستبداد

  • الوشم والتعذيب الطقسي: (مثل طقوس البلوغ) ليست ممارسات "همجية"، بل وسائل لـ:

    • توحيد الأفراد عبر اختبارات الألم المشتركة.

    • تذكير الجسم الاجتماعي برفض الانفصال عن السلطة.

4. الضحك والسخرية: أسلحة مقاومة رمزية

  • سخرية دائمة من الزعيم: تضمن عدم تقديسه.

  • أساطير مضحكة عن حماقات الآلهة: تمنع ظهور دين هرمي يبرر السلطة المطلقة.


 العلم أم الأيديولوجيا؟

يكشف كيف أن الأنثروبولوجيا التقليدية (حتى الماركسية) وقعت في فخِّ النموذج الغربي:

  • التحيز التطوري: وصف المجتمعات اللادولتية بأنها "بدائية" يفترض أن الدولة مرحلة أعلى.

  • الاقتصاد كسبب وهمي: الماركسية رأت أن الدولة نتاج فائض الإنتاج، لكن كلاستر يظهر أن هذه المجتمعات تعرف فائضاً وترفض التراكم (مثال: صيد الغواياكي الوفير وتبادله فوراً).

  • السلطة ليست اقتصاديةً بالضرورة: في المجتمعات البديلة، السياسة مستقلة عن الاقتصاد.

"المجتمعات ضد الدولة لا تجهل السلطة، بل ترفض فصلها عن النسيج الاجتماعي" — كلاستر.


كيف تنشأ الدولة؟ نظرية الاختطاف

يطرح بأن الدولة لا تنشأ "طبيعياً"، بل عبر انقطاع في التوازن السياسي:

  • الدين كأداة انفصال: عندما يظهر "نبي" يدعي احتكاراً للقوى الإلهية (كبعض حركات النبوءة في قبائل التوبي-غواراني)، يُخلق انفصال بين من يعرف "الحقيقة المطلقة" والباقين، مما يمهّد للهرمية.

  • التحول من "الزعيم الخادم" إلى "السيد": حين يصبح الزعيم وسيطاً بين البشر والآلهة، تتحول سلطته إلى قسرية.


 تأثير كلاستر وتحدياته

تأثير ثوري في الفلسفة السياسية

  • الأناركية العلمية: قدم أدلة أنظمة لادولتية ناجحة، مما أعطى الأناركية سنداً أنثروبولوجياً.

  • تأثيره على دولوز وغواتاري: فكرة "المجتمع ضد الدولة" في كتابهما "ضد أوديب" مستوحاة منه.

  • نقد فوكو: وسّع مفهوم السلطة ليشمل أشكالاً غير قسرية.

انتقادات لأطروحته

  • المثالية المُفرطة: اُنتقد لتصويره المجتمعات البدائية كـ "جنات عدن" (رغم أنه رفض أسطورة "الهمجي النبيل").

  • تعميم غير دقيق: هل كل المجتمعات اللادولتية "ضد الدولة"؟ بعضها ربما لم يواجه شروط نشوئها أساساً.

  • إغفال العوامل الخارجية: مثل تأثير الاستعمار في تفكك هذه النظم.


ملخصا 

"هو مرآة نقدية لحضارتنا:

  • الدولة ليست قدراً: تذكير بأن البشرية عاشت معظم تاريخها بلا دولة قسرية.

  • السلطة يمكن أن تكون غير قسرية: في عصر الشموليات والرأسمالية المتوحشة، يفتح الكتاب أفقاً لتصور ديمقراطيات جذرية.

  • تحرير المخيال السياسي: من خلال عرض بدائل مثل "اقتصاد الكرم" و"السلطة الموزعة"، يتحدى الكتاب عجزنا عن تخيل نظم خارج الدولة.

"كلاستر يُظهر أن المجتمعات دون دولة لم تكن فقيرةً ولا همجيةً، بل غنية بمؤسساتها وحكيمة في رفضها للاستبداد" — مارشال ساهلينز.


ملحق: هيكل الكتاب الأصلي (11 مقالاً) 
1

  1. كوبرنيكوس والهمج: نقد المركزية الغربية.

  2. التبادل والسلطة: فلسفة الزعامة الهندية.

  3. القوس والسلة: تقسيم العمل الجندري كمنظومة رمزية.

  4. ما الذي يضحك الهنود؟: السخرية كمناعة ضد السلطة.

  5. واجب الكلام: الخطاب كسلاح للزعيم/الخادم.

  6. الأنبياء في الغابة: الدين كبذرة للدولة.

  7. المجتمع ضد الدولة: المقالة التي أعطت الكتاب عنوانه.


اقتباس

"ليس الدولة هي قدر المجتمعات البشرية، بل المجتمعات هي التي تختار – أو ترفض – أن تكون لها دولة. وهذا الرفض ليس جهلاً، بل حكمة." — بيير كلاستر

إرسال تعليق

0 تعليقات