"الابن بالتبني" (El Entenado) لخوان خوسيه ساير
1. التاريخ والأدب في الرواية
"الابن بالتبني" (1983) للكاتب الأرجنتيني خوان خوسيه ساير (1937-2005) هي واحدة من الأعمال المؤسسة للأدب اللاتيني الحديث.
تستلهم الرواية قصة حقيقية لصبي سفن يُدعى فرانسيسكو ديل بويرتو، الذي رافق بعثة المستكشف الإسباني خوان دياز دي سوليس إلى أمريكا الجنوبية في القرن السادس عشر.
بعد هجوم قبيلة كولاستينيه، بقي الصبي أسيراً لعشر سنوات، وهي التجربة التي بناها سائر لاستكشاف صدام الحضارات والهوية والذاكرة .
يصنف النقاد ساير كأهم كاتب أرجنتيني بعد خورخي لويس بورخيس، حيث تمزج أعماله بين العمق الفلسفي والكثافة الشعرية .
2. رحلة بين عوالم متصارعة
أ. اليتيم والمغامرة نحو المجهول
يبدأ الرواي، صبي مقصورة يتيم من إسبانيا القرن السادس عشر، رحلته كمشارك في بعثة استعمارية إلى "العالم الجديد". دوافعه تعكس حلم المغامرة والهروب من الهامشية:
"كانت السفن تعود محملة بالتوابل... وكان الحديث عن المجهول يملأ الموانئ بلهفة وهلوسات" .تتحول الرحلة إلى كابوس عندما يُهاجم فريق الاستكشاف من قبيلة كولاستينيه في دلتا نهر بارانا (الأرجنتين حالياً). يقتل أفراد البعثة ويُؤخذ الصبي أسيراً ليكون الشاهد الوحيد على المذبحة .
ب. العيش مع "الآخر"
تقوده سنوات الأسر العشر إلى عالم قبلي غريب:
طقوس آكلي لحوم البشر: يشهد الصبي احتفالات القبيلة بأكل لحوم الضحايا الإسبان، لا كعمل وحشي بل كفعل طقسي يرمز لاستيعاب "قوة الأعداء" .
التعلم من خلال الصمت: بدلاً من تعذيب الأسير، تدمجه القبيلة في حياتها. يتعلم لغتهم بالإشارة والملاحظة، ويدرك أن مفاهيم مثل "الهمجية" و"الحضارة" نسبية:
"كان أحدهم يشرح لي: العالم مكوّن من الخير والشر، الموت والولادة... لو اختل هذا التوازن لانهار كل شيء" .
التناقض الثقافي: بينما يرى الإسبان القبيلة "همجاً"، يبدو أفرادها أكثر انسجاماً مع الطبيعة وأقل نفاقاً من المجتمع الأوروبي .
ج. الاغتراب في الوطن
بعد عشرة أعوام، تصل بعثة إسبانية جديدة، فيقرر الكولاستينيه إعادة الصبي إلى "أهله". لكن العودة تشكل صدمة أكبر:
إعادة التعلم في الدير: يقضي سبع سنوات في دير، حيث يعيد تعلم الإسبانية ويدون مذكراته تحت إشراف كاهن يصبح "الأب الوحيد الذي عرفه" .
التحول إلى ظاهرة ترفيهية: تتحول مذكراته إلى مسرحية تجوب أوروبا، حيث يُعرض كـ"الهمجي المتمدّن" في سيرك استعماري .
الشيخوخة والذاكرة: في سن الستين، يعيد الرواي كتابة تجربته، مدركاً أن الماضي هو عالمه الوحيد:
"اللمعة المشوشة للماضي هي القصة الوحيدة لديّ... وأنا مدين لهم بحياتي" .
3. سؤال الوجود والهوية
أ. صدام الحضارات كمرآة للذات
تقلب الرواية التصور الاستعماري التقليدي:
نسبية "الهمجية": القبيلة تمارس أكل لحوم البشر، لكنها تخلو من التعذيب والرق الممارَس في أوروبا.
النفاق الاجتماعي: الإسبان يدّعون "نشر الحضارة"، لكنهم يمارسون العنف ذاته تحت غطاء ديني .
ب. سجن الهوية
فقدان اللغة الأم: نسيان الإسبانية أثناء الأسر يجعل عودته إلى الوطن أشبه بدخول غربة.
استحالة الترجمة: محاولة وصف تجربته بلغة المستعمر تشوه "حقيقة" ما عاشه .
الذاكرة كخيال متجدد: المذكرات المسرحية تُظهر كيف تتحول التجربة إلى أسطورة تخدم رواية المنتصر .
ج. اليتيم كاستعارة وجودية
مصطلح "الابن بالتبني" (El Entenado) يشير إلى:
التبني القسري: من قبل القبيلة، ثم الكنيسة، ثم الفرقة المسرحية.
الانتماء المشروط: هو "ابن" لكل هذه العوالم، لكنه غريب في جميعها .
التيتّم الكوني: كإنسان "يأتي من العدم" ويواجه وحدة الوجود:
"كل حياة هي بئر من الوحدة... وأنا اليتيم، أكثر وعياً من غيري بهذا" .
4. تقنيات السرد والرمز
أ. السرد التأملي
يستخدم سائر:
الراوي العجوز: يروي الأحداث بعد خمسين عاماً، ممزجاً الوقائع بتأملات وجودية.
التكرار الدائري: يعيد الرواي سرد المشاهد نفسها (مثل الطقوس) بتفاصيل جديدة، محاكياً تشظي الذاكرة .
ب. الرمزية المتعددة الطبقات
نهر بارانا: يمثل تدفق الزمن وعدم إمكانية العودة.
جثث الضحايا: تتحول من رموز للموت إلى وسيلة اتصال ثقافي.
المسرح: استعارة لـ"تمثيل" الهوية في المجتمع .
ج. الحوار مع الأدب العالمي
تقاطع مع بورخيس: خاصة في قصة "تقرير برودي" التي تتناول أسيراً أوروبياً بين "همج".
التأثر بغراهام غرين: في تصوير زوايا النفس المظلمة .
الأنثروبولوجيا التخيلية: كما في أعمال كلود ليفي ستروس، لكن بسرد أدبي .
5. السياق النقدي والأثر الثقافي
أ. القراءات النقدية الرئيسية
ما بعد الاستعمار: تظهر الرواية كيف يبني المستعمِرُ "الهمجي" لتبرير الهيمنة .
الأنثروبولوجيا التخمينية: تقدم نموذجاً لـ"ثقافة افتراضية" متكاملة، تتحدى تصنيفات الغرب .
فلسفة اللغة: تشكك في قدرة الكلمات على تمثيل "الحقيقة" .
ب. التقييم الأدبي
وصفها لو موند بأنها "رواية عظيمة يجب إضافة مؤلفها لقائمة عمالقة أمريكا الجنوبية" ، بينما أشاد واشنطن بوست بأسلوبها:
"مزيج من الغموض الميتافيزيقي لبورخيس والوصف الحسّي لغراهام غرين" .
6. الرواية كسفر وجودي
"الابن بالتبني" ليست مجرد رواية تاريخية، بل استعارة للإنسان الحديث:
الغريب الأبدي: كالرواي، نعيش في عوالم متعددة دون انتماء جذري.
ذاكرة كخيال ضروري: الماضي يصبح سرداً نعيد كتابته لنجد معنىً لوجودنا.
- التواصل المستحيل: صدام الحضارات ليس حدثاً تاريخياً، بل قدراً إنسانياً.كما يختتم الرواي:
"في النهاية، أنت وحدك في مواجهة ذكرياتك. كل إنسان يموت حاملاً ذكرياته الفريدة" .
مصادر إضافية للبحث:
0 تعليقات