"البوسطجي" ليحيى حقي
تُعتبر قصة "البوسطجي" للكاتب المصري العظيم يحيى حقي (1905-1992) واحدة من أبرز وأعمق القصص القصيرة في الأدب العربي الحديث،
ليس لمجرد حبكتها البسيطة الظاهرة، بل لما تنطوي عليه من رموز ودلالات اجتماعية ونفسية وفلسفية عميقة، تجسدها شخصية البوسطجي (ساعي البريد) وتفاعله مع عالم "الباشا" و"الست الكبيرة".
فهي قصة عن الموت والحياة، عن الطبقية والاغتراب، عن الزيف والصدق، وعن البحث المستحيل عن معنى في عالم يبدو عبثيًا.
البناء الفني والحدث المركزي:
البدء المفاجئ والصادم: تفتتح القصة بحدث مأساوي مفاجئ: "مات البوسطجي". هذه الجملة القصيرة المباشرة تخلق صدمة وتحدد نهاية مصير الشخصية المحورية قبل أن نعرفه. الموت هنا ليس حدثًا دراميًا متطورًا، بل هو حقيقة قاسية ومسلَّمة تفرض نفسها منذ السطر الأول.
الحدث المثير: السبب المباشر للموت هو سقوط البوسطجي من فوق السلم بينما كان يصعد ليُسَلِّم رسالة إلى شقة الباشا في الطابق العلوي.
هذا السقوط ليس مجرد حادث عارض، بل هو نقطة الارتكاز التي تدور حولها كل أحداث القصة وتفاصيلها اللاحقة، والتي هي في جوهرها محاولة لفهم هذا الموت وتداعياته.الزمان والمكان: تدور الأحداث في إحدى العمارات الراقية في القاهرة (على الأرجح في فترة ما قبل ثورة 1952 أو في بداياتها، حيث الطبقة الأرستقراطية/البيروقراطية العليا لا تزال مهيمنة).
المكان مغلق ومحدد (العمارة، مدخل العمارة، شقة الباشا، السلم)، مما يضفي طابعًا خانقًا وكثيفًا على الأحداث. الزمن قصير (من لحظة السقوط حتى إخراج الجثة)، لكن السرد يستدعي الماضي القريب للبوسطجي في هذه العمارة.الراوي: راوٍ عليم بضمير الغائب، يمتلك قدرة على النفاذ إلى أفكار ومشاعر بعض الشخصيات (خاصة الباشا والست الكبيرة)،
لكنه يظل محايدًا إلى حد كبير، يعرض الأحداث والمواقف دون تعليق صريح مبالغ فيه، تاركًا للقارئ استخلاص الدلالات من السلوكيات والأقوال.
الشخصيات الرئيسية وتحليلها:
البوسطجي (ساعي البريد):
الغياب الحاضر: هو المحور، لكنه يموت مع بداية القصة. وجوده الفعلي يتمثل فقط في جثته الصامتة. معرفتنا به تأتي من خلال ذكريات الآخرين عنه (خاصة بواب العمارة) وردود أفعالهم تجاه موته.
الرمز المركزي: يمثل البوسطجي الإنسان البسيط، الفقير، الكادح، المجهول الهوية. هو "الآخر" المنتمي لعالم مختلف تمامًا عن عالم سكان العمارة الأثرياء. اسمه غير معروف، وظيفته تحدد هويته الوحيدة ("البوسطجي"). هو "الرقم" في معادلة المجتمع الطبقية.
الروتين والاغتراب: تصفه ذكريات البواب بأنه كان "رجلًا طيبًا"، "هادئًا"، يؤدي عمله بانتظام ودون ضجيج. تسلّم الرسائل دون أن يُلقي لها بالًا، ويذهب. هذا الروتين اليومي يرمز إلى اغترابه التام عن المكان وأهله. هو جزء من المنظر اليومي لكنه غير مندمج فيه، مجرد أداة وظيفية.
الموت ككشف: موته المفاجئ هو الذي يخرجه من حالة اللامرئية واللامبالاة التي كان يعيشها. جثته تصبح مركز الاهتمام المؤقت، فتضطر الطبقة العليا للاعتراف بوجوده، ولو بشكل مشوّه ومزيف.
البحث عن الهوية: البحث عن هويته بعد موته (من خلال الأوراق في جيبه) يبرز عبثية هذا السعي في مجتمع لا يهتم بالفرد إلا كوظيفة. حتى شهادات عائلته المدرسية لا تعطي اسمًا واضحًا.
الباشا:
سيد المكان: يمثل قمة الهرم الاجتماعي في هذا العالم المصغر (العمارة). هو صاحب السلطة والنفوذ والثروة.
الانفصال والأنانية: رد فعله الأولي على خبر الموت هو القلق على سلم بيته ("أنا مش عايز دم على سلم بيتي!"، "السلم بتاعي إتخرب؟"). هذا يكشف عن أولوية الممتلكات والظهور على القيمة الإنسانية. قلقه مركّز على النظافة والسمعة، لا على المأساة الإنسانية.
الزيف والرياء: يُظهر مشاعر دينية زائفة عندما يطلب قراءة الفاتحة على روح البوسطجي، لكن هذه المشاعر تتبخر سريعًا أمام الإزعاج الذي يسببه وجود الجثة. أداؤه للواجب الديني/الاجتماعي سطحي ومجرد إجراء شكلي.
الخوف من التلوث والاختلاط: يشعر بالاشمئزاز من الجثة ومن لمسها. يرفض أن تُدخل الجثة إلى شقته أو حتى إلى المدخل الرئيسي. هذا الخوف رمزي للخوف من الاختلاط بالطبقات الدنيا ومن تلوث عالمه "النظيف" المنعزل بفقراء و"أوساخ" العالم الخارجي.
استعادة السيطرة: بعد الصدمة الأولية، يسعى جاهدًا لاستعادة السيطرة على الموقف وإعادة الأمور إلى "نصابها" بأسرع وقت ممكن، أي إزالة الجثة وإزالة آثار الحادث (غسل الدماء). عودته لشرب الشاي بعد إزالة الجثة رمز قوي لعودة عالمه الزائف إلى "طبيعته".
الست الكبيرة (زوجة الباشا):
الرعب والهستيريا: موقفها يتسم بالرعب المبالغ فيه والهستيريا. صراخها المستمر ("ياخسارتي!") يعكس خوفها الشديد من الموت ومن كل ما يهدد استقرار وعزلة عالمها المصطنع.
الأنانية المطلقة: مثل الباشا، تركيزها منصبّ على إزعاج الموقف لها ("أنا مش عايزة أسمع كلمة!"، "مش عايزة أفتح الشباك!"، "مش عايزة أشم ريحة!"). لا تعبر عن أي تعاطف حقيقي مع الميت أو أسرته.
الانفصال عن الواقع: انشغالها بترتيب الشعر المستعار قبل النزول (عندما أُخبرت خطأً أن زوجها هو من سقط!) يظهر مدى تمسكها بالمظاهر السطحية وابتعادها التام عن الجوهر الإنساني للمأساة. حتى في لحظة الخطر المُتصوَّر، المظهر الخارجي يأتي أولًا.
الاستعلاء الطبقي: خوفها من "روائح" البوسطجي حتى بعد موته، وإصرارها على عدم دخول الجثة للمدخل، يعكس نفس الشعور بالاستعلاء والخوف من التلوث الطبقي الذي يظهر عند زوجها.
بواب العمارة:
الصلة الوحيدة: هو الشخص الوحيد الذي يبدو أن له ذكريات وتفاعلًا حقيقيًا مع البوسطجي كإنسان ("كان راجل طيب"، "مبيتكلمش كتير").
الخوف من السلطة: على الرغم من مشاعره، فهو يظهر خضوعًا تامًا لأوامر الباشا والست الكبيرة. دوره يقتصر على التنفيذ (إزالة الجثة، غسل الدماء) دون اعتراض.
رمز الطبقة الوسطى الدنيا/الخادمة: يقف على الحدود بين عالم الباشا وعالم البوسطجي. يعيش في العمارة لكن في أدناها (السبتية)، يخدم السادة لكنه قريب نسبيًا من البسطاء. خوفه من غضب الباشا يطغى على تعاطفه.
حامل الذاكرة: هو شاهد على روتين البوسطجي وعلى زيف ورياء ساكني الطوابق العليا.
شخصيات ثانوية:
الريس (المسؤول عن البوسطجية): يمثل السلطة البيروقراطية الصغيرة. همه الأساسي هو الإجراءات الرسمية (التعرف على الجثة، إبلاغ الشرطة، استلام الأوراق). التعامل مع الموت كملف إداري.
أفراد الشرطة: حضورهم شكلي، يكرسون عدم اكتراث السلطة الرسمية بالحادث كقضية إنسانية.
حمال النعش: يجسد الفقر والقدرة على التعايش القاسي مع الموت كحقيقة يومية. تعامله العملي المتقشف مع الجثة (ربطها بالحبل) يناقض بشكل صارخ هستيريا الست الكبيرة.
التيمات الرئيسية والرمزية:
الطبقية الاجتماعية والاغتراب:
القصة تصور فجوة هائلة لا تُجسّر بين عالم الأثرياء (الباشا والست الكبيرة في الطابق العلوي) وعالم الفقراء (البوسطجي في الشارع، البواب في السبتية).
البوسطجي هو الغريب الدائم، المغترب عن المكان الذي يخدمه يوميًا. لا يراه السكان إلا كوظيفة، لا كإنسان. موته هو الذي يفرض وجوده عليهم بشكل مؤقت ومزعج.
المكان نفسه (العمارة، السلم) يصبح رمزًا للهرمية الاجتماعية الصارمة. صعود البوسطجي للسلم هو محاولة للوصول إلى العالم العلوي تنتهي بسقوط مميت، رمزًا لاستحالة تجاوز الحواجز الطبقية أو حتى الاقتراب منها بأمان.
الخوف والاشمئزاز من جثة البوسطجي و"روائحه" هو خوف طبقي من التلوث والاختلاط بالآخر الفقير.
الموت والحياة:
الموت حاضر بقوة منذ البداية كحقيقة مفاجئة وقاسية لا مفر منها.
موت البوسطجي البسيط يُقابل بالأنانية والرياء والقلق على المظاهر من قبل الأغنياء.
السؤال الفلسفي: ما قيمة حياة إنسان مثل البوسطجي في هذا العالم؟ حياته كانت روتينًا خفيًا، وموته أصبح إزعاجًا يجب التخلص منه.
موقف حمال النعش العملي من الموت يقابله رعب وهستيريا الست الكبيرة، مما يطرح أسئلة عن مواقف مختلفة من الموت كحقيقة.
الزيف والرياء:
سلوك الباشا والست الكبيرة مليء بالتناقض والزيف:
الباشا يطلب الفاتحة لكن همه الأكبر هو نظافة السلم.
الست الكبيرة تظهر مشاعر دينية سطحية ("اللهم اغفر له وارحمه") لكنها ترفض حتى سماع تفاصيل المأساة وتخاف من "ريحة" الميت.
اهتمامهم بالشكليات الدينية والاجتماعية (الفاتحة، المظاهر) يخفي غيابًا تامًا للتعاطف الإنساني الحقيقي.
عودة الباشا لشرب الشاي بعد إزالة الجثة مباشرة هو ذروة الزيف والعودة السريعة إلى الحياة الاعتيادية الزائفة، وكأن شيئًا لم يحدث.
سلبية الإنسان وفقدان المعنى:
البوسطجي: حياته روتينية، مجهولة الهوية، تنتهي بشكل عبثي (سقوط من سلم). موته لا معنى له، وبحث السلطات عن هويته يؤكد غياب المعنى والفردية في حياته.
الباشا والست الكبيرة: محبوسان في عالم من الترف والاهتمام بالمظاهر، منفصلان عن الواقع الإنساني الأساسي. موقفهما من الموت يكشف عن فراغ قيمي.
البواب: يعرف الحقيقة ويشعر بشيء من التعاطف، لكنه عاجز ومستسلم لسلطة الباشا.
الريس والشرطة: يتعاملون مع المأساة كملف إداري روتيني.
الصورة الإجمالية تُظهر عالمًا إنسانيًا تسوده السلبية والاغتراب وفقدان المعنى الحقيقي للحياة والموت.
الصعود والسقوط:
السلم هو الرمز الأبرز. صعود البوسطجي للسلم هو فعل يومي اعتيادي يصبح في هذه المرة فعلًا مميتًا.
الصعود هنا له دلالة مزدوجة: فهو الصعود المادي إلى الطابق العلوي (عالم الثراء والسلطة)، وهو أيضًا قد يحمل دلالة رمزية على السعي أو المحاولة التي تنتهي بالفشل الذريع (السقوط).
السقوط ليس فقط جسديًا، بل هو سقوط رمزي لإنسان في هاوية اللامبالاة الاجتماعية والعدم.
قوة المادة وضعف الروح:
التركيز الهوسي للباشا على نظافة السلم وحفظ ممتلكاته المادية، مقابل تجاهله التام للروح الإنسانية التي فارقت الحياة.
انشغال الست الكبيرة بالمظهر الخارجي (الشعر المستعار) حتى في لحظة الأزمة المفترضة.
المادة (السلم، الدم الذي يجب غسله، جمال الشقة) تطغى بشكل صارخ على القيمة الروحية والأخلاقية والإنسانية.
الأساليب الفنية:
الرمزية: (السلم، الطابق العلوي/السبتية/الشارع، الدم، الجثة، الشعر المستعار، غسل الدماء، شرب الشاي) كلها رموز تحمل دلالات اجتماعية ونفسية وفلسفية عميقة تتجاوز ظاهرها المادي.
المفارقة (Irony): تُستخدم بكثافة:
المفارقة الدرامية: القارئ يعلم موت البوسطجي منذ البداية بينما تتكشف ردود أفعال الشخصيات.
مفارقة الموقف: طلب الباشا قراءة الفاتحة بجانب قلقه على السلم؛ هستيريا الست الكبيرة من رائحة الميت مقابل انشغالها بترتيب شعرها؛ عودة الباشا لشرب الشاي بعد إخراج الجثة مباشرة.
مفارقة التعبير: استخدام تعابير دينية أو اجتماعية مهذبة (مثل "اللهم اغفر له") في سياق يخلو تمامًا من المشاعر الإنسانية الحقيقية.
التكثيف والاقتضاب: رغم عمق الدلالات، تستخدم القصة لغة متزنة ومكثفة. يحيى حقي بارع في اختيار الكلمة الدالة والمشهد المعبّر.
الوصف الدقيق: وصف مشاهد مثل الجثة، الدم على السلم، هستيريا الست، برودة حمال النعش، يعطي واقعية ملموسة تزيد من تأثير المفارقة والرمز.
الحوار: الحوارات قصيرة ومكثفة، تعكس شخصيات المتحدثين وتكشف عن أنانيتهم وزيفهم (حوارات الباشا مع البواب، صراخ الست، تعليمات الباشا للريس).
التصوير الحسي: الاعتماد على الحواس (الشم: رائحة الدم، رائحة الجثة المتخيلة؛ السمع: صراخ الست، صوت غسل الدم؛ البصر: منظر الجثة، الدم، السلم، مظهر الست) لخلق جو واقعي ومؤثر.
الأبعاد الاجتماعية والنفسية:
نقد الطبقة الأرستقراطية/البيروقراطية: القصة هجاء لاذع للطبقة الحاكمة/المترفة في مصر ما قبل الثورة، التي تعيش في عزلة عن واقع الشعب، منشغلة بالمظاهر والسلطة، فاقدة لأي حس إنساني أو اجتماعي حقيقي. أنانيتهم ورياؤهم وصلتهم الباردة بالدين واضحة جليّة.
اغتراب الإنسان البسيط: البوسطجي نموذج للإنسان العامل المجهول، الذي يُستغل ويُهمش. حياته وموته لا قيمة لهما في نظر النظام الاجتماعي القائم إلا كرقم أو مصدر إزعاج.
الخوف من الآخر: رد فعل الباشا والست الكبيرة يعكس خوفًا مرضيًا من الاختلاط بالطبقات الدنيا، نظرة دونية، ورغبة في الحفاظ على حدود طبقية صارمة حتى في الموت.
الروتين واللامبالاة: الروتين اليومي (للجميع: البوسطجي، البواب، الريس) يخفي اللامبالاة تجاه المعاناة الإنسانية ويجعل الموت مجرد إجراء روتيني آخر.
عودة التوازن الزائف:
تنتهي القصة بإخراج جثة البوسطجي من المدخل الخلفي (ليس المدخل الرئيسي!) وغسل آثار الدم من على السلم.
يعود الباشا لشرب الشاي في شرفته، وكأن شيئًا لم يحدث. الست الكبيرة تهدأ. البواب يعود إلى عمله. العمارة تعود إلى هدوئها المعتاد. هذا "الهدوء" هو هدوء زائف، فهو يعيد تأكيد النظام الطبقي القاسي واللامبالاة العميقة التي تسود هذا المجتمع.
إزالة الدماء هي محو لأثر الإنسان البسيط، وتأكيد على أن عالم الأغنياء سينتصر دائمًا في الحفاظ على نظافته وعزلته، متجاهلًا الدماء الحقيقية والمعاناة الإنسانية التي تحدث على أعتابه.
المأساة لم تُحل، بل تمت إدارتها وإخفاؤها لاستعادة "النظام".
"البوسطجي" ليحيى حقي: أكثر من قصة، لوحة مرعبة عن الاغتراب والطبقية
باختصار، "البوسطجي" ليست مجرد قصة عن موت عامل. إنها تشريح دقيق ومُر لعالم اجتماعي مريض تسوده الطبقية الصارمة، والاغتراب العميق، والزيف الأخلاقي، وفقدان المعنى الإنساني
من خلال حدث بسيط ومفاجئ، تنجح القصة في كشف هشاشة وعزلة عالم الأثرياء والسلطة، وفي الوقت نفسه، تصور المأساة الصامتة للإنسان البسيط الذي يعيش ويموت كظلٍّ غير مرئي على هامش هذا العالم.
بساطة الحكاية تتناقض تناقضًا صارخًا مع عمق الدلالات التي تحملها، مما يجعلها تحفة أدبية خالدة في تاريخ القصة القصيرة العربية، وقادرة على إثارة التأمل والقلق لدى القارئ عبر الأجيال.
إنها صرخة صامتة ضد اللامبالاة وضد عالم يغسل دماء ضحاياه ليستعيد هدوئه الزائف
0 تعليقات