لماذا؟ البناء الاجتماعي

البناء الاجتماعي

 

ما الذي يُبنى اجتماعيًّا بالضبط؟

 The Social Construction of What? لإيان هاكينغ

 الإشكالية الأساسية

يطرح الفيلسوف الكندي إيان هاكينغ (1936–2023) في 

كتابه "The Social Construction of What?" (1999) سؤالاً جوهريًّا: "ما الذي يُبنى اجتماعيًّا بالضبط؟".

 ينتقد هاكينغ الاستخدام الفضفاض لمصطلح "البناء الاجتماعي" في الخطاب الأكاديمي والسياسي، حيث يُطبق على مفاهيم متنوعة مثل الجنس، الكواركات، الحقائق العلمية، الإعاقة، وحتى الواقع نفسه دون تمييز دقيق. يهدف الكتاب إلى تفكيك هذا المفهوم عبر تحليل فلسفي يركز على:

  • نقاط الاشتباك بين العلم والعلوم الاجتماعية.

  • التفريق بين فئات البناء (أفكار، أشياء، كلمات تصاعدية).

  • التأثير العملي للتصنيفات على السلوك البشري.


البناء الاجتماعي

يحدد هاكينغ ثلاثة افتراضات يتبناها المؤمنون بالبناء الاجتماعي عن أي ظاهرة (X):

  1. عدم الحتمية:

    "X لم يكن حتميًّا، ويمكن أن يكون مختلفًا أو غير موجود لو تغيرت السياقات التاريخية والاجتماعية". مثال: فكرة "اللاجئة" لم تظهر إلا بعد تشكُّل مفاهيم الحدود القومية والقوانين الدولية.

  2. السوء الجوهري:
    غالبًا ما يُصوَّر X كظاهرة ضارة (مثل "الجنون" كتصنيف قمعي).

  3. ضرورة التغيير:
    الدعوة لإلغاء X أو إصلاحه جذريًّا.

ما الذي يُبنى؟ أنواع البناء الاجتماعي

الفئةالتعريفأمثلة
أشياءكيانات مادية أو مؤسسيةالصخور، الأطفال، السجون
أفكارمفاهيم، نظريات، تصنيفات"الجندر"، "العرق"
كلمات تصاعديةمصطلحات مجردة تُستخدم لوصف الواقع"الحقيقة"، "المعرفة"

الإشكالية المركزية: الخلط بين هذه الفئات يؤدي إلى جدال عقيم. مثال:

  • القول إن "الدولوميت (صخرة) بناء اجتماعي" لا يعني أن الصخرة غير حقيقية، بل أن فهمنا الجيولوجي لها نتاج سياقات تاريخية.


آليات البناء الاجتماعي 

1. التأثير الحلقي (Looping Effect)

ينشأ هذا التأثير عندما:

  • تُصنَّف فئة بشرية (مثل "المصابين بفقدان الشهية").

  • يتفاعل الأفراد مع التصنيف: يقبلونه، يرفضونه، أو يُعدّلون سلوكهم ليتوافق معه.

  • يغيِّر التفاعلُ الظاهرةَ نفسها، مما يجعل المعرفة السابقة عنها متقادمة.

مثال: الصحة العقلية

  • في القرن 19، ساد تشخيص "الهستيريا" بين النساء.

  • اليوم، حلَّت محله تشخيصات مثل "الاكتئاب" أو "اضطراب القلق".

  • التغيير ليس بسبب تطور البيولوجيا فقط، بل بسبب تغير القيم الاجتماعية وضغوط شركات الأدوية.

2. الفرق بين "الأنواع المتفاعلة" و"الأنواع غير المبالية"

  • الأنواع المتفاعلة (Interactive Kinds):

    • كيانات تتفاعل مع تصنيفاتها (بشر، مجتمعات).

    • مثال: مصطلح "امرأة لاجئة" يُغيِّر هوية من يُطلق عليهم ويؤثر في سياسات الهجرة.

  • الأنواع غير المبالية (Indifferent Kinds):

    • كيانات لا تتأثر بتصنيفاتنا (الكواركات، الذرات).

    • هاكينغ يؤكد: البشر فقط هم "أنواع متفاعلة".


درجات الالتزام بالبناء الاجتماعي

يصنف المنظرين إلى 6 مستويات حسب عمق التزامهم:

  1. تاريخي: يوثق كيفية تشكُّل X عبر الزمن دون دعوة لتغييره.

  2. ساخر: يسلط الضوء على عدم حتمية X مع التشكيك في إمكانية تغييره.

  3. إصلاحي: يرى أن X ضار ويدعو لتعديله.

  4. كاشف (Unmasking): يكشف الأيديولوجيا خلف X (مثل تحليل ماركس للرأسمالية).

  5. تمردي: يرفع شعارات رافضة لـ X دون خطط عملية.

  6. ثوري: يسعى لهدم X (مثل إلغاء السجون).

تحليل هاكينغ لجدل "حروب العلم"

في صراع بين:

  • الواقعيين: (مثل ستيفن واينبرغ) يرون أن الحقائق العلمية مستقلة عن المجتمع.

  • البنائيين: (مثل برونو لاتور) يرون أن المعرفة نتاج شبكات اجتماعية.
    يقترح هاكينغ حلًّا توفيقيًّا:

"العلم كـ نشاط (طرق البحث، الأسئلة المطروحة) بناء اجتماعي، لكن محتواه (القوانين الفيزيائية) ليس كذلك".


 دراسات حالة رئيسية 

1. إساءة معاملة الأطفال (Child Abuse)

  • البناء الاجتماعي لفكرة الإساءة:

    • قبل الستينيات، لم تكن الضربات "التأديبية" تعتبر إساءة.

    • تحول المفهوم بعد حملات ناشطين وأبحاث طبية.

  • تمييز هاكينغ الحاسم:

    "الأفعال الوحشية ضد الأطفال حقيقية، لكن تصنيفها كـ 'إساءة' بناء اجتماعي".

2. البحث في تطوير الأسلحة

  • تأثير التمويل العسكري:

    • لا يغير الحقائق الفيزيائية (مثل دقة الصواريخ).

    • لكنه يوجه شكل العلم: اختيار المشكلات، طرق النشر، الأخلاقيات.

  • مثال: تطوير القنبلة الذرية حوَّل الفيزياء إلى "علم مُعسكر".

3. الجدل الأنثروبولوجي: كابتن كوك في هاواي

  • السؤال: هل اعتقد سكان هاواي أن كوك إله؟

  • الخلاف بين الباحثين:

    • مارشال ساهلينز: نعم، بسبب تطابق وصوله مع طقوس الإله لونو.

    • غاناناث أوبايسيكير: لا، هذه قراءة غربية أسطورية.

  • خلاصة هاكينغ: الموقفان يعكسان سياقات ثقافية للمفكرين أنفسهم.


  فلسفيا وأخلاقيا

1. مشكلة "الاستقطاب الأيديولوجي"

يطلق تحذيرا من:

  • التطرف البنائي: إنكار أي واقع بيولوجي (مثل رفض دور الجينات في الأمراض).

  • التطرف الواقعي: تجاهل تأثير السلطة على العلم (مثل تجارب توسكيجي على السود).

2.  التحرر بالبناء الاجتماعي

رغم دور المفهوم في:

  • تحرير المضطهدين (تقويض حتمية الأدوار الجندرية).
    إلا أنه:

  • لا يساعد بالضرورة المتضررين:

    "إقناع مريض فقدان الشهية أن مرضه 'بناء اجتماعي' لا يشفيه".

3. التمييز بين "الضرورة" و"الجوهر"

  • الضرورة: قد تكون بعض الظواهر حتمية في سياق بشري معين (مثل العنف).

  • الجوهر: خطأ افتراض أن للظواهر "جوهر" ثابت (مثل اعتبار "المرأة" مرتبطة حتميًّا بالأمومة).


 رؤية هاكينغ التوفيقية

وهكذا بدعوة لـ "فلسفة متواضعة" تقبل أن:
١. البناء الاجتماعي حقيقي في مجال الأفكار والممارسات البشرية.
٢. الواقع المادي مستقل عن تصوراتنا، لكننا لا نصل إليه إلا عبر عدسات اجتماعية.
٣. الأهم هو الإجابة على سؤال: "ماذا؟" قبل الحكم على أي ظاهرة.

مقولة محورية:
"لا أريد سلامًا بين البنائيين والعلماء، بل فهمًا أفضل لسبب خلافهم".

 الكتاب وتأثيره

  • القوة: تحليل دقيق لاختلاط المستويات (أنطولوجي/إبستمولوجي).

  • الضعف: بعض الأمثلة (مثل الجيولوجيا) تحتاج تفصيلاً أكثر.

  • التأثير: لا يزال مرجعًا في فلسفة العلم والعلوم الاجتماعية.


مصادر:

إرسال تعليق

0 تعليقات