أن لا تكون أحدًا

 

أن لا تكون أحدًا

 "Being No One: The Self-Model Theory of Subjectivity" لتوماس ميتزينجر

ثورة في فهم الذات والوعي

 كتاب أن لا تكون أحدًا: نظرية الذات كنموذج ذاتي (2003) للفيلسوف الألماني توماس ميتزينجر عملاً مؤسساً في فلسفة العقل وعلم الأعصاب الإدراكي. ي

بأطروحة جذرية مفادها أن الذات كما نعرفها ليست كياناً حقيقياً، بل هي وهم ناتج عن عملية دماغية معقدة يسميها "نموذج الذات الظاهرية" (Phenomenal Self-Model - PSM). يعتمد الكتاب على بيانات علم الأعصاب وحالات عصبية نادرة لتفكيك المفاهيم التقليدية عن الوعي والهوية، مقدماً إطاراً نظرياً يربط بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية.


 وهم الذات

  1. الذات كظاهرة لا كجوهر:

    • يؤكد ميتزينجر أنه "لا وجود لذوات في العالم" بمعنى الكيانات المستقلة الثابتة. ما نختبره كـ"أنا" هو مجرد محتوى واعي متغير (Phenomenal Self) يُنتجه الدماغ عبر نمذجة مستمرة للكيان البيولوجي.

    • الذات الظاهرية تشبه سلسلة من اللحظات المتصلة (process) وليس شيئاً ثابتاً (thing). هذا يستدعي أفكاراً من فلسفة ديفيد هيوم والبوذية (مفهوم "الأناتا" أو اللا-ذات).

  2. نموذج الذات الظاهرية (PSM):

    • الـ PSM هو تمثيل دماغي متكامل يجمع معلومات عن الجسم (كالوضع الحركي والحالة العاطفية) ويقدمها كـ"تجربة موحدة" من منظور المتكلم الأول (first-person perspective).

    • يُعد هذا النموذج "شفافاً" (transparent)، أي أن المستخدم لا يدركه كتمثيل بل كواقع مباشر. هذه الشفافية هي سبب اعتقادنا أن الذات حقيقية.


كيف يخلق الدماغ الوهم؟

1. الشفافية (Transparency)

  • التعريف: خاصية تجعل التمثيلات الدماغية تختفي كوسائط، فنختبر محتواها كواقع مطلق (مثل نافذة شفافة نرى العالم عبرها لكننا لا نلاحظ الزجاج نفسه).

  • التجسيد العملي: في حالة اليد المطاطية (rubber hand illusion)، يحل الدماغ التمثيل البصري لليد المطاطية محل الإشارات الحسية لليد الحقيقية، مما يخلق إحساساً مزيفاً بالتملك (ownership). هنا يصبح النموذج "شفافاً" رغم عدم دقته.

2. التملك الظاهري (Phenomenal Mineness)

  • كيف تنشأ ملكية التجارب؟ عندما يُدمج حدث ما (كلمس اليد) في الـ PSM، يكتسب خاصية "هذا يحدث لي" دون حاجة إلى "ذات" مراقبة.

  • الأدلة من الحالات المرضية:

    • في متلازمة كوتار (Cotard’s syndrome)، يرفض المريض وجود جسده أو نفسه ("أنا ميت") بسبب تعطل الـ PSM.

    • في اضطراب الهوية التفارقي (Dissociative Identity Disorder)، تتناوب نماذج متعددة للذات دون تكامل، مما يثبت طبيعة النموذج القابلة للتغيير.

3. نموذج العلاقة القصدية الظاهرية (PMIR)

  • يُعرف الـ PMIR بأنه تمثيل للعلاقة بين "الذات" والعالم، ويخلق إحساساً بالوكالة (agency) والقصدية.

  • تجارب الخروج من الجسد (Out-of-body experiences): عند تحفيز منطقة الصدغيّة الجدارية (temporoparietal junction)، يتشوه الـ PMIR فيختبر الشخص مشاهدته لجسده من الخارج. هذا يثبت أن "الإحساس بالتواجد في الجسم" نتاج نموذج دماغي قابل للاختراق.


جسر بين الفلسفة والعلم

  1. مستويات التحليل الخمسة: يفحص ميتزينجر الوعي عبر طبقات مترابطة:

    • الظواهري (Phenomenological): وصف التجربة الذاتية (مثل الإحساس بـ"الأنا").

    • التمثيلي (Representationalist): دراسة التمثيلات الدماغية كوسائط للمحتوى.

    • الحسابي-المعلوماتي (Informational-Computational): تحليل معالجة البيانات في الدماغ.

    • الوظيفي (Functionalist): دور الوعي في التكيف والبقاء.

    • الفيزيائي-العصبي (Neurobiological): الأساس العصبي للتجارب (مثل دور القشرة الجدارية).

  2. دراسات الحالة الشاذة:

    • العمى الإبصاري (Blindsight): مرضى يُنكرون رؤية أشياء لكنهم يتصرفون بناءً عليها. هذا يثبت انفصال المعالجة الواعية عن اللاواعية.

    • إهمال النصف المكاني (Spatial neglect): مرضى يتجاهلون نصف مجالهم البصري، مما يكشف كيف يحدد الـ PSM "مركز" الوعي.

    • الأحلام الواضحة (Lucid dreams): حيث يدرك الحالم أنه يحلم، مما يُظهر مرونة نماذج الذات.


حوار مع الشرق والغرب

1. الجذور البوذية (أناتا - Anattā)

  • يتقاطع مع البوذية في رفض الذات الجوهرية، لكنه يختلف عنها:

    • أوجه التشابه: كلا الرؤيتين ترى الذات كـعملية متغيرة (process) وليس كياناً.

    • أوجه الاختلاف: البوذية تستند إلى التأمل الفلسفي، بينما يستند ميتزينجر إلى علم الأعصاب (مثل تصوير الدماغ أثناء التأمل).

2. النقد الديكارتي

  • يُهاجم ميتزينجر فكرة ديكارت "أنا أفكر إذن أنا موجود" بالقول:

    • "الأنا" في "أنا أفكر" هي جزء من الـ PSM وليست دليلاً على وجود جوهر ثابت.

    • الحدس الديكارتي نفسه وهم ناتج عن شفافية النموذج.


الانتقادات والتحديات للنظرية

  1. المشكلة الاختزالية:

    • هل يمكن لنظرية تعتمد على "مستويات دون شخصية" (subpersonal) أن تفسر التجربة الذاتية الغنية (مثل إحساس اللون الأحمر)؟ هذا يثير جدلاً فلسفياً حول الفجوة التفسيرية (explanatory gap).

  2. إشكالية الأخلاق والهوية:

    • إذا كانت الذات وهمًا، فكيف نُسائل الناس قانونياً؟ يجيب ميتزينجر: المسؤولية الأخلاقية تُبنى على الوكالة (agency) لا على وجود ذات جوهرية.

  3. التحدي الحدسي:

    • يصف أحد المراجعين الكتاب بأنه "ممل بشكل لا يوصف" لكنه يعترف بتأثيره العميق. هذا يعكس صعوبة تقبل فكرة اختفاء الذات حدسياً.


تأثير الكتاب وتطبيقاته المستقبلية

  1. في الذكاء الاصطناعي:

    • إذا كانت الذات نتاج نمذجة، فهل يمكن للروبوتات تطوير "أنوية ظاهرية"؟ يشير ميتزينجر إلى إمكانية ذلك لكنه يحذر من مخاطر أخلاقية.

  2. في الطب النفسي:

    • تفسر النظرية حالات مثل فقدان الأطراف الوهمية (phantom limbs):

      "الـ PSM يستمر في تمثيل الطرف المفقود كجزء من الجسم، مما يسبب ألماً في العضو غير الموجود".

    • كما تفتح آفاقاً لعلاج اضطرابات الهوية عبر تعديل النماذج الذاتية.

  3. في الفلسفة التجريبية:

    • ألهم الكتاب مشاريع مثل "استبيان التجربة الظاهرية الدنيا" (MPE-92M) لدراسة حالات "الوعي الصافي" في التأمل.


لماذا "عدم كوننا أحداً" يحررنا؟

يختتم ميتزينجر بأن تفكيك وهم الذات ليس تشاؤمياً، بل هو تحرير من سجن المفاهيم الخاطئة. فهم الآليات الدماغية للـ PSM يسمح لنا:

  • بتطوير وعي مرن قادر على تجاوز الأوهام (كالتعصب والتماهي المفرط مع الأفكار).

  • بناء أخلاقيات جديدة قائمة على العدمية الإيجابية (positive nihilism)، حيث تختفي الأنانية مع اختفاء الذات الوهمية.
    الكتاب ليس نهاية الطريق، بل دعوة لـعلم كوني جديد (new cosmology of mind) حيث الذات جزء من طيف الوعي الطبيعي، لا مركزه المطلق.

"الذات الواعية هي أداة، بل سلاح، تطور في سباق التسلح الإدراكي. إنها أداة مجردة اخترعتها الأنظمة البيولوجية وحسنّتها باستمرار." – توماس ميتزينجر.


مصادر:

إرسال تعليق

0 تعليقات