النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة

 
النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة

Political Order in Changing Societies

 النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة لصامويل هنتنغتون

 الإطار التاريخي والفكري للكتاب

صدر كتاب "النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة" (Political Order in Changing Societies) لعالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنغتون عام 1968، في ذروة الحرب الباردة وموجة من عدم الاستقرار والانقلابات في دول العالم الثالث.

 جاء الكتاب كرد فعل على النظريات السائدة آنذاك، التي ربطت بشكل سطحي بين التحديث الاقتصادي والاجتماعي وقيام الديمقراطيات المستقرة.

 قدم هنتنغتون أطروحة ثورية لا تزال مؤثرة حتى اليوم، مفادها أن غياب المؤسسات السياسية القوية هو الجذر الحقيقي للفوضى، وليس غياب الديمقراطية أو الفقر بحد ذاته.


الفصل الأول: التشخيص - لماذا تسقط المجتمعات في الفوضى؟

1.1. خرافة التحديث الخطي

هاجم هنتنغتون الفكرة الغربية الساذجة التي كانت سائدة في الخمسينيات والستينيات، والتي افترضت أن processes التحديث (مثل التصنيع، التحضر، انتشار التعليم والإعلام) تؤدي حتمًا وآليًا إلى الديمقراطية والاستقرار.
 رأى هنتنغتون أن هذه النظرة خاطئة وجزء من المشكلة.

1.2. التحديث كقوة مدمرة

بدلاً من كونه قوة بناءة، يرى هنتنغتون أن التحديث، في مراحله الأولى، هو عملية هدم وتفكيك للمجتمعات التقليدية، مما يولد حالة من الفوضى والاضطراب، وذلك من خلال آليات رئيسية:

  • التعبئة الاجتماعية (Social Mobilization): انتقال الأفراد من هوياتهم التقليدية (القبيلة، العشيرة، الطائفة) إلى هويات حديثة (الطبقة، الحزب، القومية)، مما يخلق توقعات جديدة وغير مسبوقة.

  • توسيع نطاق المشاركة السياسية: ارتفاع مستوى التعليم والوعي يدفع فئات جديدة للمطالبة بدور في الحياة السياسية.

  • تفكك المؤسسات التقليدية: المؤسسات القديمة التي كانت تنظم المجتمع (كالمشيخة والزعامات الدينية) تفقد سلطتها، دون أن تحل محلها بدائل حديثة فورًا.

1.3. نظرية الفجوة (The Gap Theory)

هذا هو قلب تشخيص هنتنغتون. تنشأ الفوضى من الفجوة المتسعة بين التوقعات الاجتماعية المتصاعدة وبطء استجابة المؤسسات السياسية. بمعنى آخر:

  • يخلق التحديث رغبات وطموحات (لوظائف، تعليم، رعاية صحية، ثروة) بمعدل سريع جدًا.

  • بينما تكون قدرة النظام الاقتصادي والسياسي على تلبية هذه المطالب بطيئة وضعيفة.

  • يؤدي هذا التناقض إلى إحباط جماعي وخيبة أمل، تبحث عن منفذ، وغالبًا ما يكون هذا المنفذ عنيفًا وغير منظم (احتجاجات، أعمال شغب، انقلابات).


: الحل - نظرية المؤسسية

2.1. من الشكل إلى الجوهر

يقدم هنتنغتون حله المركزي: الاستقرار لا يعتمد على الشكل الظاهري للنظام (ديمقراطي أم ديكتاتوري)، بل على جودة ومتانة مؤسساته. ما يهم هو درجة التمأسس أو المؤسسية (Institutionalization).

2.2. معايير قوة المؤسسة السياسية

يحدد هنتنغتون أربع صفات للمؤسسة القوية:

  1. القدرة على التكيف (Adaptability): قدرة المؤسسة على الصمود عبر الزمن، واجتياز الأزمات، والتكيف مع المتغيرات الجديدة دون الانهيار.

  2. التعقيد (Complexity): وجود هيكل تنظيمي متشعب به أقسام وأجهزة فرعية متخصصة. النظام البسيط (كالديكتاتورية الفردية) أضعف من النظام المعقد (كالحزب القوي بفروعه المتعددة).

  3. الاستقلالية (Autonomy): قدرة المؤسسة على العمل بمعزل عن الهيمنة المباشرة لمصالح فئة أو طبقة أو عائلة واحدة، وأن تخدم المصلحة العامة.

  4. التماسك (Coherence): وجود درجة عالية من الإجماع الداخلي على القواعد والإجراءات، والقدرة على حل النزاعات داخليًا بطرق سلمية ومؤسسية.

2.3. المعادلة المركزية: المشاركة ÷ المؤسسية = الاستقرار

يخلص هنتنغتون إلى أن مستوى الاستقرار السياسي لأي مجتمع هو حصيلة النسبة بين مستوى المشاركة السياسية ومستوى المؤسسية.

  • فوضى وعنف: عندما تكون المشاركة السياسية عالية والمؤسسية منخفضة.

  • استقرار ونظام: عندما تكون المؤسسية عالية بما يكفي لتنظيم واستيعاب المشاركة الواسعة.


 المسارات التاريخية - لماذا نجح الغرب وفشل الآخرون؟

3.1. النموذج الغربي: المؤسسات أولاً

يشرح هنتنغتون أن سر الاستقرار النسبي في المجتمعات الغربية يكمن في التسلسل التاريخي الذي حدث فيه التحديث.
حيث تم بناء المؤسسات السياسية القوية (الدولة البيروقراطية، الأحزاب، البرلمانات) أولاً، وبعد ذلك جاءت مرحلة التعبئة الاجتماعية والمطالبة بالمشاركة الجماهيرية الواسعة. كانت المؤسسات جاهزة لاستيعاب الطلب.

3.2. نموذج العالم الثالث: المشاركة أولاً

في معظم دول العالم الثالث، حدث العكس تمامًا. حيث فتحت وسائل الإعلام والتعليم باب المشاركة والتوقعات أولاً، بينما كانت المؤسسات السياسية لا تزال ضعيفة أو غائبة أو متصلبة.
وجدت النخب الحاكمة نفسها فجأة أمام مطالب هائلة من جماهير مُعَبَّأة، دون أن تمتلك الآليات المؤسسية للاستجابة، فكانت النتيجة الفوضى والانقلابات العسكرية.


 القوى الاجتماعية الفاعلة ومصيرها

4.1. دور الجيش: المنقذ والطاغية

في المجتمعات ذات المؤسسات الضعيفة، غالبًا ما يكون الجيش هو المؤسسة الأكثر تنظيمًا وتعقيدًا (أي الأعلى مؤسسية). هذا يفسر ظاهرة "الانقلابات التصحيحية"، حيث يتدخل الجيش لفرض النظام في ظل فوضى سياسية مدنية.
يمكن للجيش أن يلعب دورًا "إيجابيًا" مؤقتًا إذا ساهم في بناء مؤسسات مدنية، لكنه يتحول إلى مشكلة إذا استمر في الحكم مباشرة.

4.2. المثقفون والفلاحون والبرجوازية

  • المثقفون: غالبًا ما يكونون مصدرًا للمعارضة وعدم الاستقرار بسبب توقعاتهم العالية ومكانتهم الهشة.

  • الفلاحون: قوة محافظة في الغالب، إلا إذا تم استغلالهم بشكل فادح أو تعبئتهم من قبل نخبة منظمة.

  • البرجوازية (الطبقة الوسطى): دورها غامض؛ فقد تدعم الاستقرار إذا شعرت بالأمان، أو تدعم الثورة إذا حُوصرت طموحاتها.


 الاستقرار والانحطاط - تحذير أخير

5.1. المؤسسات القوية يمكن أن تضعف

يحذر هنتنغتون من أن تحقيق المؤسسية ليس نهاية التاريخ. فالمؤسسات القوية معرضة لخطر الجمود والتصلب (Rigidity)
. عندما تصبح مصالح الفئات المتحكمة فيها أقوى من المصلحة العامة، وعندما تفقد القدرة على التكيف مع المتغيرات، تدخل في مرحلة "الانحطاط السياسي"، مما يهيئ البيئة لأزمة جديدة.


 الإرث النقدي وأهمية الكتاب

6.1. النقد الموجه للكتاب

تعرضت أطروحة هنتنغتون لانتقادات مهمة، أبرزها:

  • تغليب الاستقرار على الحرية: اتهامه بتقديم "مبرر نظري" للديكتاتوريات والأنظمة السلطوية لقمع الحريات تحت ذريعة الحفاظ على النظام.

  • إهمال العامل الثقافي: تجاهله لدور الثقافة والأفكار والقيم كعوامل مستقلة في التغيير السياسي.

  • التعميم المفرط: محاولة تطبيق نموذج واحد على مجتمعات شديدة التنوع.

6.2. الأهمية 

رغم النقد، يظل الكتاب أحد أهم المراجع في العلوم السياسية. فهو يقدم إطارًا تحليليًا قويًا لفهم أسباب الفوضى في الحالات الحديثة، مثل ما حدث في "الربيع العربي" ودول أخرى، حيث فشلت مؤسسات الدولة في استيعاب مطالب شعوب متعلمة ومتطلعة للتغيير.
الكتاب تذكرة دائمة بأن الديمقراطية الحقيقية تحتاج إلى مؤسسات قوية قبل أن تحتاج إلى صناديق اقتراع، وأن بناء هذه المؤسسات هو التحدي الأصعب والأهم لأي مجتمع يتطلع إلى المستقبل

إرسال تعليق

0 تعليقات