المقاومة اللاعنفية

سياسات عمل اللاعنف

 

ملخص كتاب "The Politics of Nonviolent Action" لجين شارب

 إعادة تعريف القوة والصراع

يُعد كتاب "The Politics of Nonviolent Action" للباحث الأمريكي جين شارب (1928-2018) أحد أكثر الأعمال تأثيراً وأساسية في مجال دراسة المقاومة السلمية واللاعنف كأداة سياسية فاعلة.

 لا يقدم الكتاب مجرد نظرة مثالية أو أخلاقية للاعنف، بل يحلله كاستراتيجية واقعية وعملية للصراع السياسي، قادرة على تحقيق تغيير جذري وإسقاط أنظمة ظالمة.

 يعمل شارب على تفكيك الصورة النمطية التي ترى في اللاعنف مجرد احتجاج أو عصيان مدني سلبي، ليرسم بدلاً من ذلك صورةً عن "حرب بدون أسلحة" منظمة ومخططة.

كانت مارينا فينكلشتاين محررة للطبعة التي صدرت عن دار Porter Sargent Publishers، حيث ساهمت في تنظيم وإخراج هذا العمل الضخم والموسوعي، مما سهل وصول أفكاره إلى جمهور أوسع.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء رئيسية، يشكلون معاً نظرية متكاملة:

  1. الأساسيات: قوة اللاعنف.

  2. الأساليب: ممارسة العمل اللاعنفي.

  3. الديناميكيات: مواجهة التحديات في الصراع اللاعنفي.


 الأساسيات - قوة اللاعنف (The Foundations of Nonviolent Action)

يهدف هذا الجزء إلى تأسيس الإطار النظري لفعالية المقاومة اللاعنفية، من خلال تحليل طبيعة القوة السياسية ذاتها.

1. نظرية القوة المتجذرة في الطاعة (The Theory of Power Based on Consent):
هذا هو حجر الزاوية في نظرية شارب بأكملها. 
يجادل بأن قوة الحكام ليست جوهرية أو ذاتية، بل هي مشتقة من طاعة وامتثال المحكومين. تستند سلطة أي حكومة، بغض النظر عن مدى قمعها، إلى مصادر القوة هذه:

  • الشرعية: اعتقاد الناس بأن النظام له الحق في الحكم.

  • الطاعة والعادة: التعود على اتباع الأوامر.

  • الخوف من العقاب: الخوف من العواقب في حالة العصيان.

  • الدعم المؤسسي: تعاون المؤسسات المختلفة (الإدارية، القضائية، العسكرية، الاقتصادية) مع النظام.

يستنتج شارب أن استمرار سلطة النظام يعتمد على التعاون المستمر من قبل السكان والمؤسسات. وعليه، فإن المقاومة اللاعنفية تعمل على سحب هذا التعاون والطاعة. عندما يرفض الناس الامتثال، تفقد السلطة مصادر قوتها واحدة تلو الأخرى وتصبح هشة.

2. مواجهة العنف باللاعنف:
يتناول شارب التحدي الأكبر: كيف يمكن للاعنف أن يواجه نظاماً لا يتردد في استخدام العنف والقمع؟ إجابته ليست أخلاقية فحسب، بل تكتيكية:

  • تقويض شرعية النظام: عندما يقمع النظام احتجاجات سلمية بوحشية، فإنه يفقد شرعيته في أعين الجماهير والعالم. يظهر التناقض بين عنف الدولة وسلامية المحتجين.

  • إثارة "التضامن المعنوي" (Moral Jiu-Jitsu): مصطلح استعاره من حركة السوفرجيت. يشير إلى أن قمع المتظاهرين السلميين يمكن أن يسبب صدمة أخلاقية للجنود والشرطة والمشاهدين المحايدين، مما قد يؤدي إلى تعاطفهم مع المحتجين وحتى تمردهم على أوامر قادتهم. كأن النظام "يسقط على سكينته هو".

  • الصمود والاستمرارية: نظراً لأن المشاركة في العمل اللاعنفي لا تتطلب شجاعة استثنائية (مثل حمل السلاح)، يمكن أن يشارك فيه عدد أكبر من الناس ويستمر لفترات أطول، مما يرهق آلة القمع النظامية.


الأساليب - ممارسة العمل اللاعنفي (The Methods of Nonviolent Action)

هذا الجزء هو بمثابة "دليل ميداني" أو تصنيف موسوعي لـ 198 طريقة مختلفة للمقاومة اللاعنفية، مقسمة إلى ثلاث فئات واسعة. يوضح هذا التنوع أن اللاعنف ليس مجرد مسيرات، بل هو ترسانة استراتيجية هائلة.

1. الاحتجاج والإقناع (Nonviolent Protest and Persuasion):
تهدف هذه الأساليب إلى التعبير عن المعارضة، ونشر الوعي، وحشد التأييد. وهي غالباً الخطوة الأولى في الحملة.

  • أمثلة: المسيرات، المظاهرات، الوقفات الاحتجاجية، الشعارات، اللافتات، العرائض، البيانات العلنية، الصور الرمزية، الخطابات.

2. عدم التعاون (Nonviolent Noncooperation):
هذه هي الأساليب الأكثر فاعلية في سحب مصادر القوة من النظام. يتم تنظيمها لحرمان النظام من التعاون في مجالات حيوية.

  • عدم التعاون الاجتماعي: المقاطعة الاجتماعية للنخبة الحاكمة، سحب الولاء، العصيان المدني للقوانين غير العادلة.

  • عدم التعاون الاقتصادي: الإضرابات (بجميع أنواعها: العامة، الجزئية، احتلال أماكن العمل)، المقاطعة الاقتصادية للسلع والخدمات (مقاطعة المستهلكين)، حظر البيع والتجارة.

  • عدم التعاون السياسي: مقاطعة الانتخابات، رفض العمل في المؤسسات الحكومية، سحب السفراء، العصيان البيروقراطي.

3. التدخل اللاعنفي (Nonviolent Intervention):
هذه هي الأساليب الأكثر جرأة وتقدمية، حيث لا يكتفي المحتجون بعدم التعاون، بل يتدخلون بشكل فعال لتعطيل النظام وإقامة بدائل له.

  • أمثلة: الاعتصامات، الجلوس في الطرقات، إضرابات الجوع، إنشاء حكومات ومؤسسات موازية، إنشاء أنظمة اتصال وتعليم مستقلة، العصيان الشامل.

يؤكد شارب أن نجاح هذه الأساليب يعتمد على التخطيط الاستراتيجي، والانضباط الصارم، والتدريب الجيد للمشاركين على مواجهة القمع دون رد فعل عنيف.


الديناميكيات - مواجهة التحديات في الصراع اللاعنفي (The Dynamics of Nonviolent Struggle)

يذهب شارب إلى أبعد من وصف الأساليب لتحليل كيفية تطور الحملات اللاعنفية ديناميكياً وكيف يمكنها تحقيق النصر.

1. التحديات وكيفية مواجهتها:

  • القمع: كيف تحافظ الحركة على تماسكها واستمراريتها في مواجهة الاعتقالات والعنف.

  • المفاوضات: متى وكيف تدخل الحركة في مفاوضات مع الخصم دون أن تبدو ضعيفة أو تتنازل عن مبادئها الأساسية.

  • الإنجازات: كيف تقيس الحركة تقدمها (ليس فقط بالانتصار النهائي، بل بكسرة هيبة النظام، وكسب التأييد، وإنشاء مؤسسات موازية).

2. آليات التغيير (The Mechanisms of Change):
يحدد شارب أربع آليات رئيسية يمكن من خلالها أن تؤدي المقاومة اللاعنفية إلى التغيير:

  • الإقناع (Conversion): المثالية، حيث يقتنع الخصم بأحقية قضية المحتجين (نادرة الحدوث).

  • التسوية (Accommodation): الأكثر شيوعاً. حيث لا يغير الخصم معتقداته، لكنه يُجبر على التفاوض والتسوية بسبب الضغوط والتكاليف الباهظة لاستمرار الصراع.

  • التعطيل غير العنيف (Nonviolent Coercion): تحدث عندما تصبح الحركة قوية لدرجة أنها تجرد النظام من سلطته فعلياً (مثل إنشاء حكومة موازية) حتى وإن كان لا يزال يملك القوة العسكرية. يصبح النظام عاجزاً عن الحكم عملياً.

  • التفكيك (Disintegration): الآلية الأكثر تطرفاً، حيث ينهار النظام تماماً بسبب سحب التعاون على جميع المستويات، وتتلاشى ولاءات قواته، مما يؤدي إلى انحلاله دون أن تحل أي سلطة مركزية مكانه فوراً.

3. التخطيط الاستراتيجي:
يؤكد شارب أن اللاعنف العفوي والعاطفي محكوم عليه بالفشل. النجاح يتطلب:

  • تحديد الأهداف بوضوح.

  • اختيار الأساليب المناسبة للسياق.

  • التدريب على الانضباط واللاعنف.

  • بناء التنظيم والقيادة.

  • تطوير خطط اتصال فعالة.

  • توقع ردود فعل الخصم والتخطيط للرد عليها.


 الإرث والتأثير

لم يكن "The Politics of Nonviolent Action" مجرد كتاب أكاديمي، بل تحول إلى دستور استراتيجي للثورات والحركات التحررية في القرن الحادي والعشرين. تُرجمت أعمال شارب إلى dozens of languages ووُزعت سراً في دول ذات أنظمة استبدادية.

كان تأثيره واضحاً ومباشراً في:

  • ثورة السلطة الشعبية في الفلبين (1986) التي أطرت بالديكتاتور فرديناند ماركوس.

  • حركات المعارضة في دول الكتلة الشرقية قبل سقوط جدار برلين.

  • الثورة الوردية في جورجيا (2003).

  • الثورة البرتقالية في أوكرانيا (2004).

  • الربيع العربي (2010-2011)، حيث استخدمت الحركات أساليب وصفها شارب مثل الاعتصامات السلمية وإنشاء هياكل تنظيمية موازية.

  • حركات الاحتجاج حول العالم من هونغ كونغ إلى تشيلي.

النقد:
واجهت أفكار شارب بعض الانتقادات، منها:

  • إغفال البعد الأخلاقي/الديني: يركز شارب على اللاعنف كاستراتيجية وليس كأسلوب حياة (كما فعل غاندي أو مارتن لوثر كينغ)، مما يجعلها تبدو آلة سياسية باردة.

  • افتراض العقلانية: يفترض أن الخصم والقوات الأمنية سيتصرفون بعقلانية وقد يصابون بـ"الصدمة الأخلاقية"، وهو أمر غير مضمون في الأنظمة القمعية جداً.

  • تعميم النموذج: هل يمكن تطبيق هذه الاستراتيجيات بنجاح في جميع السياقات الثقافية والسياسية، خاصة ضد أنظمة لا تتردد في استخدام العنف المفرط دون اكتراث بالرأي العام؟

خلاصة:

يبقى كتاب "The Politics of Nonviolent Action" لجين شارب إسهاماً monumental في الفكر السياسي. لقد حول النقاش حول اللاعنف من مفهوم أخلاقي غامض إلى علم استراتيجي قائم على التحليل التاريخي والسياسي. 

الكتاب هو دليل على أن القوة الحقيقية لا تكمن في برميل البندقية، بل في إرادة الناس الجماعية ورفضهم للخضوع. إنه يمنح الأمل والأدوات للشعوب المقهورة، مظهراً أن لديهم سلاحاً أقوى من أي دبابة: سلاح عدم الطاعة والتنظيم والإرادة

إرسال تعليق

0 تعليقات