عبد التواب أفندي

عبد التواب أفندي - يحي حقي

 

 "عبد التواب أفندي" ليحيى حقي

المقدمة: الكاتب وأهمية المجموعة القصصية

يُعد يحيى حقي (1905-1992) أحد أعمدة الأدب العربي الحديث ورائدًا لتقنية القصة القصيرة في الأدب المصري. 

وُلد في حي السيدة زينب بالقاهرة، وتخرج في مدرسة الحقوق السلطانية عام 1925، وعمل في السلك القضائي ما أتاح له الاحتكاك بشرائح المجتمع المختلفة، خاصة خلال عمله في الصعيد (1927-1928) التي شكلت أهم فترة في تكوينه الأدبي. 

تأثرت كتاباته بالواقعية الاجتماعية واهتم بتصوير حياة الطبقات المهمشة والكشف عن تناقضات النخبة، مع مزج السخرية بالتراجيديا الإنسانية. نال العديد من الجوائز المرموقة منها جائزة الدولة التقديرية (1969) وجائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي.

مجموعة "عبد التواب أفندي" (التي صدرت طبعتها الأولى عام 2007 عن دار نهضة مصر) تضم ثلاث عشرة قصة قصيرة كتبت بين عشرينيات وخمسينيات القرن العشرين، تعكس تطور فن القصة القصيرة العربية من خلال:

  • توظيف اللهجة المصرية في حوار الشخصيات

  • التركيز على التفاصيل الدالة بدل السرد المطول

  • استخدام الرمزية والسخرية السوداء

  • كشف التناقضات الطبقية والأخلاقية في المجتمع المصري.


التحليل التفصيلي للقصص

١. "القلب المسموم": الغيرة والتحول الأخلاقي

تدور حول موظف بسيط (عبد الحميد) تغمره الغيرة من زميله الأكثر نجاحًا (فتحي بك). تتحول غيرته إلى هوس يدفعه لتخريب حياة فتحي بك عبر نشر الشائعات، لينتهي به الأمر منعزلاً ومكتويًا بنار حقد ذاته. تبرز القصة تأثير السُمّ النفسي الذي يقتل صاحبه قبل ضحيته، وتكشف كيف تُشوّه النزعات الدنيئة الروح الإنسانية.

٢. "الموت والتفكير والسخرية": العبثية الوجودية

يقدم حقي هنا ثلاث لوحات قصصية متداخلة تبحث في علاقة الإنسان بالموت. الشخصية المحورية (علي أفندي) يواجه خبر إصابته بمرض قاتل، فيسخر من محاولات الأطباء لإنقاذه، ويسخر حتى من مشاعره هو نفسه. القصة تُجسّد عبثية الصراع ضد القدر عبر لغة تهكمية تذكر بمسرحيات العبث.

٣. "الرجل ذو الوجه الأسود": الوصمة الاجتماعية

تدور حول رجل (منصور) يعاني من تشوه في وجهه يجعله منبوذًا في قريته. يحاول بطرق مختلفة كسب تعاطف الناس، لكن تنتهي محاولاته بتحويله إلى كائن مرعب في أعينهم. القصة استعارة قوية للتمييز الاجتماعي ضد المختلف، وتكشف كيف يصنع المجتمع "وحوشه" بنبذه.

٤. "محمد بك يزور عزبته": تناقضات الإقطاع

يصور زيارة الإقطاعي محمد بك إلى قريته حيث يُظهر "كرمًا" زائفًا أمام الفلاحين بينما هو يستغلهم. المشهد الأبرز عندما يوزع عليهم نقودًا ثم يكتشف أن ابنه الصغير سرق ضعف المبلغ من محفظته. القصة تكشف ازدواجية العلاقة بين الإقطاعي والفلاحين، حيث يتحول "الكرم" إلى إذلال، والاحترام إلى خوف مقنّع بالطمع.

٥. "عبد التواب أفندي" (القصة المركزية): البخل وتحطيم الإنسانية

تحكي حكاية أفندي ثري (عبد التواب) يبالغ في البخل حتى مع زوجاته الأربع اللاتي توفين جميعًا بسبب حرمانه لهن من العلاج والطعام الكافي.

 يصل به الأمر إلى دفن إحداهن ليلاً لتوفير تكاليف الجنازة! القصة تستخدم البخل كاستعارة للأنانية المدمرة، حيث يذوب إنسانه في عبادة المال، لتنتهي القصة بمشهد موته وحيدًا بين أكوام ذهبه الذي صار لعنة.

٦. "الوسائط يا أفندم": فساد النظام الإداري

تسخر من البيروقراطية المصرية عبر موظف (سليم) يحاول نقل زوجته للمستشفى في حالة طارئة، لكنه يواجه متاهة من الموافقات والرُشى.

 القصة تكشف آلية تحول النظام الخدمي إلى آلة ابتزاز، حيث تصبح "الوساطة" قانونًا غير مكتوب. النهاية المأساوية (وفاة الزوجة) تفضح ثمن الفساد الإداري المدفوع من دم الفقراء.

٧. "السرير النحاس": الماضي كعبء

تروي حكاية عائلة تتشبث بسرير نحاسي فاخر ورثته عن الجد، رغم فقرهم المدقع. تتحول القطعة الأثرية إلى رمز لعبء التمسك بالمظاهر

 حيث ترفض الأم بيعه لتأمين علاج ابنها المريض، لتنتهي بفقدان الابن والسرير معًا في مشهد تراجيدي يفضح سخافة "الفخر" الزائف.

٨. "السلم اللولبي": صعود السُلّم الاجتماعي

بطل القصة (كامل) موظف طموح يتسلق المناصب عبر النفاق والتزلّف، لكنه مع كل صعود يكتشف أن السلم حلزوني لا ينتهي، وأن المنصب الأعلى يجلب مخاوف أكبر.

 القصة تشريح لمرض الطموح المرضي حيث يصبح "الصعود" هروبًا من الذات أكثر منه بحثًا عن النجاح. النهاية تُظهره عائدًا إلى طابق البداية بعد تقاعده، ليكتشف أن السلم كان حلقة مفرغة.

٩. "سوسو": ضياع الطفولة في عالم الكبار

ترصد حياة طفلة (سوسو) تُباع لسيد غني لتكون خادمة في بيته. مشهد التمزق بين براءتها وقسوة العالم يصل ذروته عندما تكسر إناءً ثمينًا، فتهرب إلى الشارع حيث تلتهمها المدينة.

 القصة تعرّي استغلال الطفولة في مجتمع لا يرحم الضعفاء، مع لمسة سريالية في المشهد الأخير حيث تتحول سوسو إلى ظل يذوب في ضباب القاهرة.

١٠. "مولد بلا حمص": الدين كتجارة

في قرية مصرية، يُنظم أهلها مولدًا دينيًا يتحول إلى سوق تجاري. الشيخ "زهران" يتحول إلى بائع وعظ، والبائعون يستغلون المشاعر الدينية لرفع الأسعار.

 القصة تكشف تسليع المقدّس من خلال مشهد كاريكاتوري لطفل يصرخ: "مش عاوز مولد من غير حمص!" كاستعارة لفساد الفكرة الدينية عندما تُختزل في مظاهر مادية.

١١. "ألم أقل لك؟": سادية العلاقات الأسرية

تدور حول أب (عطية) يسخر من أحلام ابنه (فؤاد) في أن يصبح طبيبًا، ويصر على إلحاقه بمدرسة الصناعات. عندما يفشل الابن وينتهي حمالاً، يكرر الأب عبارته القاسية: "ألم أقل لك؟". القصة تكشف العنف النفسي الموروث الذي يحطم الأحلام باسم "الواقعية"، حيث يصبح الفشل نبوءة ذاتية التحقق.

١٢. "في العيادة": المرض كمرآة المجتمع

في غرفة انتظار طبيب، تتحول شكاوى المرضى الجسدية إلى اعترافات عن أمراض المجتمع: موظف يشكو الفساد، وامرأة تشكو زوجها الخائن، وشاب يشكو اليأس من المستقبل. القصة تجعل العيادة فضاءً لأسقام المجتمع، وتكشف كيف يُمرّض النظامُ الاجتماعيُ الجسدَ والروح معًا.

١٣. "الودع": الخرافة كملاذ أخير

فلاحة (أم علي) تلجأ إلى عرّافة تستخدم أصداف الودع لعلاج ابنها المريض بدلاً من الطبيب. القصة تفضح الصراع بين العقل والخرافة في الريف المصري، حيث يتحول الأمل إلى سلعة يستغلها الدجالون. النهاية تُظهر الأم وهي ترمي الصدف بعد موت ابنها، لكنها تعود لتجمعها كأنها تبحث عن يأس جديد.


الأبعاد الفنية والفكرية للمجموعة

أولاً: الخصائص الأسلوبية

  • التكثيف الرمزي: يستخدم حقي التفاصيل الصغيرة كرموز لعيوب كبرى (مثل السرير النحاس = التمسك بالمظاهر).

  • السخرية السوداء: تهكم لاذع يظهر في عناوين مثل "مولد بلا حمص" أو "الموت والتفكير والسخرية".

  • الحوار الواقعي: توظيف اللهجة المصرية الدارجة في حوار الشخصيات لإضفاء الواقعية.

  • التدفق الوعيي: في قصص مثل "في العيادة"، حيث تتداخل أصوات المرضى دون فواصل.

  • المشهد البصري: بناء القصص كسيناريوهات سينمائية (مشهد دفن زوجة عبد التواب ليلاً).

ثانيًا: المحاور الفكرية

  1. نقد الاستغلال الطبقي: كما في "محمد بك يزور عزبته" و"سوسو".

  2. تشريح الأمراض النفسية: البخل في "عبد التواب أفندي"، الطموح في "السلم اللولبي".

  3. سخرية من المؤسسات الفاسدة: الإدارة في "الوسائط يا أفندم"، الدين في "مولد بلا حمص".

  4. صراع التقاليد والحداثة: "الودع" و"السرير النحاس".

  5. اغتراب الإنسان المعاصر: "الرجل ذو الوجه الأسود" و"السلم اللولبي".

ثالثًا: التقنيات السردية

  • الانزياح الزمني: كسر التسلسل الزمني في "الموت والتفكير والسخرية".

  • الراوي غير الموثوق: في "ألم أقل لك؟" حيث يحرف الأب الحقائق.

  • التناص الديني: في "مولد بلا حمص" مع إشارات إلى طقوس دينية مُحرّفة.

  • المفارقة المأساوية: موت زوجة عبد التواب بسبب بخل زوجها الثري.


السياق التاريخي وأهمية الأعمال

كتب يحيى حقي هذه القصص في فترة حاسمة من التاريخ المصري (1920-1950) التي شهدت:

  • صعود البرجوازية المصرية وتناقضاتها

  • استمرار الإقطاع في الريف

  • نمو البيروقراطية الحكومية بعد دستور 1923

  • انتشار الفكر المادي على حساب القيم الاجتماعية

في هذا السياق، تمثل المجموعة وثيقة أنثروبولوجية عن تحولات المجتمع، حيث يجمع حقي بين:

  • رؤية الناقد الاجتماعي: كشف التناقضات الطبقية

  • حسّ الإنساني: التعاطف مع المهمشين (سوسو، الرجل ذو الوجه الأسود)

  • بصيرة الفيلسوف: تساؤلات عن معنى الحياة في "الموت والتفكير والسخرية"


الإرث الأدبي والمكانة النقدية

تظل مجموعة "عبد التواب أفندي" علامة فارقة في تطور القصة العربية القصيرة لأنها:

  • نقلت القصة من الوصفية إلى التحليل النفسي

  • كسرت تابوهات الحديث عن الفساد الاجتماعي

  • مزجت التراث المحلي بالتقنيات الأدبية العالمية

  • قدمت لغة سردية جديدة تخلط الفصحى بالعامية بذكاء

يصف النقاد يحيى حقي بأنه "مُنظّر الواقعية الإنسانية" حيث لم يكتف بنقد المجتمع، بل غاص في أعماق الشخصيات المهمشة ليكشف جراحها الخفية. 

كما أن المجموعة تُظهر كيف يمكن للقصة القصيرة أن تكون مرآة عاكسة لأمراض الأمة دون أن تفقد بعدها الفني، مما جعلها نموذجًا يؤسس لمدرسة قصصية عربية مستقلة عن التبعية للأنماط الغربية.

"ينحدر قرص الشمس مسرعًا كأنه هارب وهو يقول لك هذا هو الليل يا صديقي، فماذا أنت صانع بنفسك؟!"
– اقتباس من القصص يلخص رؤية حقي للمصير الإنساني


ملخصات لكل أعمال يحي حقي 

إرسال تعليق

0 تعليقات