"الشعور بما يحدث: الجسد والعاطفة في صنع الوعي" لأنطونيو داماسيو
طبيعة الوعي
يُعد كتاب "الشعور بما يحدث: الجسد والعاطفة في صنع الوعي" (1999) لعالم الأعصاب أنطونيو داماسيو عملاً رائدًا يستكشف الأسس البيولوجية للوعي الإنساني.
يقدم داماسيو هنا نظرية متكاملة تُظهر كيف تنشأ تجربتنا الذاتية من التفاعل بين الجسد والعاطفة والدماغ.
يعتمد الكتاب على عقود من البحث السريري، بما في ذلك دراسات لحالات مرضية مثل فقدان الذاكرة، الغيبوبة، وإصابات الدماغ، والتي تقدم أدلة حاسمة على كيفية تشكل الوعي.
يُعارض داماسيو النظرة الديكارتية التقليدية التي تفصل العقل عن الجسد، مؤكدًا أن الوعي ليس منتجًا دماغيًا خالصًا، بل نتاجًا لتفاعل ديناميكي بين الدماغ والجسد ككل. وهذا يمنح الكتاب بعدًا ثوريًا في علم الأعصاب والفلسفة على حد سواء.
التمييز الجوهري بين العاطفة (Emotion) والشعور (Feeling)
يؤسس داماسيو إطارًا نظريًا صارمًا للتمييز بين مصطلحين غالبًا ما يُستخدمان بالتبادل:
العاطفة (Emotion): هي استجابة جسدية غير واعية تنشأ من أنظمة بيولوجية قديمة (مثل جذع الدماغ واللوزة الدماغية). تتجلى في تغيرات فيسيولوجية قابلة للرصد مثل:
تسارع ضربات القلب
إفراز الهرمونات (كورتيزول، أدرينالين)
تعابير الوجه (مثل الخوف أو الغضب).
الشعور (Feeling): هو التجربة الذاتية الواعية لتلك التغيرات الجسدية. مثلاً: "شعور الخوف" هو إدراكنا لتسارع القلب ورجفة اليدين الناتجة عن العاطفة.
آلية التكامل بينهما
تتحول العاطفة إلى شعور عبر عملية تسمى "التخطيط الجسدي" (Somatic Mapping)، حيث يقوم الدماغ برسم خريطة لحالة الجسد الداخلية عبر مناطق مثل:
القشرة الانعزالية (Insular Cortex): ترصد التغيرات الفسيولوجية.
القشرة الحزامية الأمامية (Anterior Cingulate Cortex): تربط هذه التغيرات بالسياق الذهني.
"الشعور هو رصدٌ ذاتيّ للتغيرات التي تطرأ على الجسد نتيجةً للعاطفة" — داماسيو.
الذات الأولية، الوعي الجوهرى، والوعي الموسع
يقدم داماسيو نموذجًا هرميًا لطبيعة الوعي، يتكون من ثلاث طبقات متراكبة:
1. الذات الأولية (Proto-Self)
الوصف: تمثيل دماغي لا واعي للحالة الفسيولوجية للجسد (مستويات الأكسجين، حرارة الجسم، التوازن الهرموني).
المناطق الدماغية المسؤولة:
الوطاء (Hypothalamus)
جذع الدماغ (Brainstem)
القشرة الانعزالية (Insula).
الوظيفة: الحفاظ على الاتزان الداخلي (Homeostasis) الضروري للبقاء.
2. الوعي الجوهرى (Core Consciousness)
الوصف: وعي لحظي بالذات والبيئة في اللحظة الحالية فقط ("هنا والآن"). لا يتطلب ذاكرة أو لغة.
الآلية: ينشأ عندما يتفاعل مُحفِّز خارجي (كصوت أو صورة) مع الذات الأولية، مما يخلق:
إحساسًا بالتملك ("هذا الصوت يخصني").
إحساسًا بالموقع ("أنا هنا الآن").
الأساس العصبي:
المهاد (Thalamus)
القشرة الحزامية الأمامية (ACC).
حالات سريرية: مرضى فقدان الذاكرة يفتقدون الماضي أو المستقبل لكنهم يحتفظون بالوعي الجوهرى.
3. الوعي الموسع (Extended Consciousness)
الوصف: وعي متقدم بالذات ككيان مستمر عبر الزمن، مع قدرة على استدعاء الماضي وتخيل المستقبل.
المكونات:
الذات السيرذاتية (Autobiographical Self): هوية مبنية على الخبرات المتراكمة.
اللغة والذاكرة العاملة: ضروريان لربط الخبرات عبر الزمن.
المناطق الدماغية:
الفص الصدغي (للاستدعاء)
الفص الجبهي (للتخطيط).
التأثر بالإصابات: إصابة مناطق مثل الحصين (Hippocampus) تدمر الوعي الموسع لكن تترك الوعي الجوهرى سليمًا.
مستويات الوعي
المستوى | الزمن | اعتماد على الذاكرة | اعتماد على اللغة | المناطق الدماغية |
---|---|---|---|---|
الذات الأولية | لا ينطبق | لا | لا | الوطاء، جذع الدماغ |
الوعي الجوهرى | الحاضر فقط | لا | لا | المهاد، القشرة الحزامية |
الوعي الموسع | ماضي/حاضر/مستقبل | نعم | نعم | الفص الصدغي، الفص الجبهي |
الفصل الثالث: دور الجسد في تشكيل الوعي: "فرضية المُحدِد الجسدي"
يناقش داماسيو فكرة أن الوعي ينشأ في الدماغ بمعزل عن الجسد، مقدماً مفهوم "المُحدِد الجسدي" (Somatic Marker):
الآلية: المشاعر (كالإثارة أو الاشمئزاز) الناتجة عن تفاعل الجسد مع محفزات خارجية، تُستخدم كـ"علامات" بيولوجية لتقييم الخيارات واتخاذ القرارات.
دليل سريري: مرضى بأضرار في الفص الجبهي البطني (VMPFC) يفقدون القدرة على الشعور بالعواطف المرتبطة بالخيارات، مما يؤدي إلى:
قرارات غير عقلانية.
عدم القدرة على التعلّم من الأخطاء.
"بدون الجسد، لا يمكن أن يكون هناك وعي" — داماسيو.
التجسيد كأساس للذات (Embodiment)
الوعي ليس تجريدًا، بل هو ظاهرة جسدية متجذرة:
الإشارات الحشوية (من الأعضاء الداخلية) تُنقل عبر العصب المبهم.
التغيرات الهرمونية تؤثر على الحالة الذهنية.
حتى الميكروبيوم المعوي قد يؤثر على الحالة العاطفية والوعي.
الفصل الرابع: العواطف كأدوات للبقاء وتطور الوعي
يقدم داماسيو رؤية تطورية لوظيفة العواطف:
الوظيفة البيولوجية: العواطف هي آليات للتنظيم الذاتي تهدف إلى:
حماية الجسد (مثل الخوف الذي يحفز الهروب).
تعزيز البقاء (مثل المشاعر الإيجابية تجاه الطعام أو الشركاء).
التصنيف:
عواطف أولية: غضب، خوف، فرح (مشتركة بين الثدييات).
عواطف خلفية: توتر، ارتياح (تستمر لفترات أطول).
عواطف اجتماعية: فخر، خجل (خاصة بالبشر).
الارتباط بالوعي: الوعي تطور لتعزيز فعالية العواطف عبر:
تمكين الكائن من "معرفة" تأثير المحفزات على جسده.
تسجيل هذه التأثيرات في الذاكرة لاتخاذ قرارات أفضل مستقبلًا.
الإسهامات العلمية
الإسهامات الرئيسية
دمج العاطفة في علم الأعصاب: أثبت أن العواطف ليست معوقًا للعقلانية بل أساسًا لها.
نموذج الوعي القائم على الجسد: قلب النظريات "المجردة" للوعي السائدة في علم الأعصاب.
إطار لتشخيص الاضطرابات: يفسر حالات مثل:
الغيبوبة العميقة: غياب الذات الأولية.
الحبسة الكلامية: فقدان الوعي الموسع مع بقاء الجوهرى.
الانتقادات الموجهة للنظرية
الغموض في علاقة العاطفة بالوعي: هل العاطفة تسبق الوعي أم أن الوعي ضروري للإحساس بها؟.
عدم وضوح آلية توليد "الكيفية" (Qualia): كيف تولد الأنماط العصبية التجربة الذاتية؟.
إهمال البعد الاجتماعي: بعض النقاد يرون أن داماسيو ركز على الفردي وأهمل دور التفاعل الاجتماعي في تشكيل الوعي.
جسر بين العلم والفلسفة
"الشعور بما يحدث" ليس مجرد كتاب في علم الأعصاب؛ إنه عمل متعدد التخصصات يربط بين البيولوجيا، علم النفس، والفلسفة. يقدم داماسيو إجابةً بيولوجيةً متكاملةً عن سؤال قديم: كيف تنشأ ذاتي من جسدي؟
رغم الانتقادات، يظل هذا الكتاب أحد أكثر النماذج تأثيرًا في فهم الوعي. كما يشير بروس تشارلتون في مراجعته:
"داماسيو هو الشخصية الرئيسية في مجاله... كتبه هي كلاسيكيات تأسيسية في علم النفس وعلم الأعصاب".
الكتاب يدعو القارئ ليس فقط لفهم الوعي، بل لتجربة نفسه كـ ظاهرة بيولوجية متكاملة، حيث الجسد والعاطفة والدماغ يشكلون معًا "دوامة الحياة البشرية المجيدة".
معان رئيسية في الكتاب
المصطلح (عربي/إنجليزي) | التعريف |
---|---|
الذات الأولية (Proto-Self) | تمثيل لاواعٍ للحالة الفيزيولوجية للجسد. |
الوعي الجوهرى (Core Consciousness) | الوعي الآني بالذات والعالم في اللحظة الحالية. |
الذات السيرذاتية (Autobiographical Self) | الهوية المبنية على تراكم الخبرات عبر الزمن. |
المُحدِد الجسدي (Somatic Marker) | آلية تستخدم المشاعر الجسدية كإشارات لتقييم الخيارات. |
التخطيط الجسدي (Somatic Mapping) | عملية رسم الدماغ لخريطة لحالة الجسد الداخلية |
0 تعليقات