التوصيل الحيوي - رؤية جديدة للدماغ البشري

التوصيل الحيوي - ديفيد إيجلمان

 

 "التوصيل الحيوي: القصة الداخلية للدماغ المتغير باستمرار" لديفيد إيجلمان

رؤية جديدة للدماغ البشري

يقدم ديفيد إيجلمان في كتابه  Livewired: The Inside Story of the Ever-Changing Brain "التوصيل الحيوي" (Livewired) مفهومًا ثوريًا يتحدى الفكرة التقليدية عن الدماغ كجهاز ثابت "مُوصَل مسبقًا". بدلاً من ذلك، يصفه بأنه نظام ديناميكي حي يعيد تشكيل نفسه باستمرار استجابة للتجارب والبيئة. المصطلح "التوصيل الحيوي" (livewired) يُعرَّف كبديل لمصطلح "المرونة العصبية" (plasticity)، مؤكدًا على الطبيعة الفورية والتكيفية المستمرة للدماغ.

الكتاب يستند إلى عقود من الأبحاث في علم الأعصاب، مع أمثلة مدهشة مثل:

  • أطفال يطورون وظائف طبيعية رغم استئصال نصف الدماغ.

  • مكفوفون "يرون" بألسنتهم عبر أجهزة استشعار.

  • مصابون بالشلل يتحكمون في أطراف روبوتية بأفكارهم.


 المبادئ الأساسية للتوصيل الحيوي

1. نسيج كهربائي حي"

يشرح إيجلمان أن الدماغ ليس مُصممًا بتفاصيل ثابتة، بل يُولد كبنية تحتية قابلة للتشكيل. الجينات (20,000 فقط في البشر) توفر الإطار الأولي، لكن التجارب هي التي تنحت التفاصيل.

"الحمض النووي ليس مخططًا ثابتًا؛ هو مجرد الدومينو الأول الذي يبدأ العرض".

2. نظرية الإعلامية (Infotropism)

يطرح إيجلمان فرضية جديدة: أدمغتنا تتبع مبدأ "تعظيم المعلومات"، مشابهًا لنمو النبات نحو الضوء. الدماغ يعيد تنظيم نفسه لاستخراق أقصى قدر من البيانات من البيئة، وهو ما يسميه "الإعلامية" . 

مثال: عند حرمان شخص من البصر، تتحول القشرة البصرية لمعالجة حاسة اللمس أو السمع، مما يعزز هذه الحواس.

3. التنافس العصبي: البقاء للأصلح

الخلايا العصبية تتنافس على "الموارد العصبية" مثل المساحة والطاقة. المسارات الأكثر نشاطًا تُقوى، بينما تضعف المساقات غير المستخدمة. هذه الآلية تفسر:

  • سبب فقدان المهارات عند إهمالها.

  • سبب تحسن المكفوفين في السمع: القشرة البصرية "تُحتَل" بواسطة المدخلات السمعية.


 دور التجارب في تشكيل الدماغ

1. الفترات الحرجة: نافذة التكوين

يولد دماغ الإنسان غير مكتمل ويحتاج إلى "تربة خصبة" من التجارب الاجتماعية والحسية ليكتمل. الفترات الحرجة (مثل تلك لتعلم اللغة أو الرؤية) تكون أقصى مرونة في الطفولة المبكرة. إذا فُوِّتت هذه الفترات، قد تُفقد القدرات إلى الأبد.

"الدماغ يحتاج إلى تجارب العالم المناسبة لتحقيق اتصاليته الأكثر فائدة".

2. البيئة كـ"نحات عصبي"

تجارب الطفولة تحدد الهيكل الدقيق للدماغ، من المستوى الجزيئي إلى التشريح الكلي:

  • توأم متطابقان في بيئتين مختلفتين يصبحان شخصيتين مختلفتين.

  • الحرمان الاجتماعي (مثل أطفال دور الأيتام في رومانيا) يُسبب تشوهات دائمة في الدماغ.

"كل ذكرى عزيزة، كل درس تتعلمه، كل معلومة تشربها – كل هذه تصوغ دوائرك العصبية".

3. التوازن بين المرونة والكفاءة

الأطفال يملكون مرونة عالية لكن كفاءة منخفضة، بينما البالغون يطورون كفاءة على حساب المرونة. إيجلمان يوضح أن هذا مفيد: لو بقي الدماغ مرنًا كالطفل، لاستمر في "العجز" وعدم التخصص.


المرونة في مواجهة التحديات

1. التكيف مع الإصابات الجسيمة

الكتاب يروي قصة ماثيو (6 سنوات) الذي تعافى بعد استئصال نصف دماغه بسبب الصرع. في غضون أشهر، أعاد النصف المتبقي تنظيم نفسه ليتولى جميع الوظائف، مع تأثيرات طفيفة فقط على الحركة . حالات مشابهة تظهر أن الدماغ يعيد توزيع المهام كـ"نظام سحابي" لا يعتمد على مواقع ثابتة.

2. استبدال الحواس: الثورة الحسية

إيجلمان يوثق أجهزة مثل:

  • BrainPort: يحول الصور إلى اهتزازات على اللسان، مما يسمح للمكفوفين "بالرؤية".

  • السماعة الجلدية: تحول الصوت إلى اهتزازات على الجلد لاستعادة السمع.

"الدماغ لا يعرف ولا يهتم من أين تأتي البيانات... إنه يمتص الإشارات المتاحة ويحدد – بشكل شبه مثالي – ما يمكنه فعله بها".

3. إعادة تشكيل الخرائط القشرية

تجارب مثل عمى العين المؤقت تُظهر أن القشرة البصرية تبدأ في معالجة الأصوات أو اللمس خلال أيام. هذه المرونة السريعة تثبت أن "الخرائط الحسية" (مثل خريطة الجسم في القشرة الحسية) ليست ثابتة وراثيًا، بل تُبنى عبر المدخلات.


التأملات المستقبلية

1. التعلم المعزز بالمرونة

إيجلمان يحدد عوامل لتحفيز المرونة:

  • الاهتمام والهدف: الدماغ يتغير فقط عند وجود خطأ في التوقعات (مفاجأة).

  • المكافآت الفورية: إفراز الدوبامين يعزز الاتصالات النشطة.

  • الممارسة المركزة: كتجربة أخوات بولغار اللواتي أصبحن أساتذة شطرنج بالتدريب المكثف.

2. مستقبل "العتاد الحيوي"

الكتاب يتنبأ بثورة في الواجهات العصبية:

  • تحكم مصابي الشلل في أطراف روبوتية.

  • أجهزة قابلة للارتداء تُضيف حواسًا جديدة (مثل استشعار الأشعة فوق البنفسجية).

  • إمكانية رفع كفاءة التعلم عبر تحفيز عصبي مستهدف.

3. لماذا نحلم؟ نظرية جديدة

إيجلمان يقترح أن الأحلام هي "تمارين افتراضية" تمنع القشرة البصرية من التخصص في أنماط ثابتة خلال النوم الطويل ليلاً. هذا يفسر سبب زيادة الأحلام في الثلث الأخير من النوم، عندما يطول الظلام.


 الجدل العلمي 

رغم الإشادة الواسعة (ترشيحه لجائزة بوليتزر)، وُجِّهت له انتقادات:

  • تكرار بعض الأفكار في فصول متعددة.

  • أخطاء في تفاصيل (مثل وصف جراحة إزالة عدسة العين بدلاً من القرنية).

  • تفاؤل مفرط حول تطبيقات التقنية العصبية دون مناقشة مخاطرها الأخلاقية.


نحن والدماغ والعالم

يختتم بأن هويتنا ليست منفصلة عن العالم، بل هي نتاج تفاعل مستمر:

"ما نعتبره 'أنت' هو وعاء التجارب الذي يُسكب فيه عينة صغيرة من الزمان والمكان... أنت تستوعب ثقافتك المحلية وتقنيتك عبر حواسك. مَن أنت مدين لمحيطك بقدر ما هو مدين لحمضك النووي".
الكتاب ليس فقط شرحًا للدماغ، بل دعوة لاستغلال مرونتنا في التعلم والتكيف مدى الحياة.


 اقتباسات 

  1. "كل إنسان يولد كرجال كثيرين ويموت كرجل واحد" – يلخص تقليل المرونة مع العمر.

  2. "الدماغ آلة توقع" – يجسد دور التنبؤ في كل وظائفه.

  3. "الذاكرة ليست خزانة ملفات، بل هي حوسبة سحابية موزعة" – يشرح الطبيعة الشبكية للذاكرة.

للمزيد من التفاصيل: الموقع الرسمي للكتاب يتضمن فصولًا مجانية ورسومًا توضيحية

إرسال تعليق

0 تعليقات