"هنري السادس، الجزء الثاني" لوليام شكسبير
السياق التاريخي والأدبي
"هنري السادس، الجزء الثاني" (كتبت عام 1591) هي المسرحية الثانية في ثلاثية شكسبير التاريخية التي تتناول حرب الوردتين (1455-1485)، الصراع الأهلي الذي مزق إنجلترا بين بيت لانكاستر (الوردة الحمراء) وبيت يورك (الوردة البيضاء). تُعتبر هذه المسرحية - بحسب النقاد - الأفضل بين أجزاء الثلاثية .
تقدم العمل صورة قاتمة عن انهيار النظام السياسي تحت وطأة الطموحات الشخصية، وضعف القيادة، وانعدام الثقة بين النبلاء والشعب، مما يخلق "وثيقة مرعبة لسقوط أمة في حرب أهلية".
بذور الصراع
تبدأ المسرحية بوصول الملكة مارغريت من أنجو إلى إنجلترا برفقة دوق سوفولك، الذي تفاوض على زواجها من الملك هنري السادس. شروط الزواج المثيرة للجدل تتضمن تنازل إنجلترا عن مقاطعتي أنجو وماين لفرنسا، مما يثير غضب دوق غلوستر (الوصي على العرش)، الذي يحذر:
"أيها أقران إنجلترا، هذه المعاهدة مخزية! هذا الزواج كارثي! إنه يمحو أسماءكم من سجلات التاريخ ويدمر إنجازاتنا في فرنسا".
التحالفات الأولية في البلاط الملكي
المجموعة | الشخصيات البارزة | الأهداف |
---|---|---|
حاشية الملك | دوق غلوستر، إيرل وارويك | الحفاظ على الاستقرار |
معارضي غلوستر | الكاردينال بوفورت، سوفولك، سمرست | إزالة غلوستر من السلطة |
طامحين بالعرش | دوق يورك، سالزبوري | المطالبة بالحق الشرعي |
تظهر المؤامرات جلية عندما تقوم إليانور دوقة غلوستر باستشارة ساحرة وعرافة لمعرفة مستقبلها، في فخ دبره سوفولك .
يقود يورك مؤامرة موازية، حيث يكشف لإيرل سالزبوري وابنه وارويك عن أحقيته في العرش بناءً على نسبه المباشر من الملك إدوارد الثالث.
سقوط غلوستر وتصاعد المؤامرات
تُحكم على إليانور بالنفي لتورطها في السحر، ويضطر غلوستر للتخلي عن منصبه كوصي للعرش تحت ضغط النبلاء .
يستغل أعداؤه ضعفه، ويتهمونه بالخيانة بمؤامرة دبرها سوفولك والملكة مارغريت. رغم دفاع الملك هنري عن عمه، يتم اعتقال غلوستر. في مشهد مأساوي، يقتل غلوستر على يد قتلة أرسلهم سوفولك، ويصف الملك هنري الحدث بأنه:
"ذبح بريء كخروف يُساق إلى المسلخ".
تحولات السلطة بعد مقتل غلوستر
الحدث | الشخصيات المتأثرة | النتيجة |
---|---|---|
نفي إليانور | دوقة غلوستر | إضعاف دوق غلوستر |
استقالة غلوستر | الملك هنري | فقدان الحماية الشرعية |
مقتل غلوستر | سوفولك، الملكة | تصاعد الغضب الشعبي |
يكتشف الشعب تورط سوفولك في الجريمة، مما يدفع الملك إلى نفي سوفولك. في مشهد عاطفي يودع سوفولك الملكة مارغريت (عشيقته) قائلاً: "إنجلترا ليست سوى جزيرة من الحزن بالنسبة لي بدونك" . أثناء منفاه، يقع سوفولك في أيدي قراصنة يقتلونه ويرسلون رأسه إلى مارغريت، التي تحمله باكية.
تمرد كيد والثورة الشعبية
يخطط دوق يورك لاختبار ولاء الشعب الإنجليزي قبل تحركه العلني، فيوظف جاك كيد (قائد ثورة شعبية) ليتظاهر بأنه وريث شرعي للعرش . يعد كيد الفلاحين والفقراء بإسقاط النظام الطبقي:
"سألغي المال وأجعل كل شيء مشاعاً... وسنأكل ونشرب مجاناً!".
أحداث التمرد:
يشن كيد هجمات على لندن ويقتل لورد ساي (وزير الخزانة) بتهمة "تدمير إنجلترا بالقراءة والكتابة".
ينفذ مقولة كيد الشهيرة: "أول شيء سنفعله هو قتل كل المحامين".
يقنع لورد كليفورد الثوار بالعودة إلى ولائهم للملك باستذكار بطولات الملك هنري الخامس.
يهرب كيد بعد تخلي أتباعه عنه، ويقتل في حديقة الإسكندر إيدن (نبيل كينتي) الذي يُكافأ على ذلك.
المواجهة العسكرية
يعود يورك من أيرلندا بجيشه بحجة الدفاع عن الملك، لكنه يطالب باعتقال دوق سمرست. عندما يخدعه باكنغهام بإطلاق سراح سمرست، يعلن يورك مطالبته بالعرش علناً:
"هذا العرش إرثي كالنسيج لنساج، فهل يسرق النساج ما هو حق له؟".
معركة سانت ألبانز الأولى (1455):
المتحاربون: جيش يورك (وردة بيضاء) ضد جيش لانكاستر (وردة حمراء).
الخسائر: مقتل سمرسيت على يد ريتشارد (ابن يورك)، ومقتل لورد كليفورد على يد يورك.
النتيجة: هزيمة هنري ومارغريت وهروبهما إلى لندن، بينما يتقدم يورك نحو العاصمة.
تحليل الشخصيات الرئيسية
الملك هنري السادس:
ملك ضعيف "كتابي" يفضل التأمل الروحي على الحكم. عجزه عن السيطرة على النبلاء يفتح الباب للفوضى. يمثل ضعفه السياسي فقدان الشرعية التدريجي للحكم.الملكة مارغريت:
امرأة طموح وقوية، عشيقية سوفولك، وقائدة عسكرية لاحقاً. تحطم الصورة النمطية للمرأة في أدب العصر، وتتحدى الأدوار الجندرية بتورطها المباشر في العنف السياسي.دوق يورك:
سيد المناورات السياسية الطويلة الأمد. خطته المحكمة (باستخدام كيد كأداة اخير) تكشف دهاءه. طموحه يرمز لـ "صعود الماكرين على أنقاض المثاليين".جاك كيد:
ثوري شعبي يستغل غضب الفقراء من الضرائب والامتيازات النبيلة. خطبه تعكس الوعي الطبقي والرغبة في قلب النظام الاجتماعي . حركته تظهر كيف تستخدم النخب الغوغاء لأغراضها ثم تتخلى عنهم.
الموضوعات المركزية
فقدان الأرض وهوية الأمة:
تنازل هنري عن الأراضي الفرنسية (أنجو وماين) ليس خسارة مادية فقط، بل خسارة رمزية للرجولة الإنجليزية كما يشير كيد: "لقد خصوا الكومنولث وجعلوه خصياً!".العدالة والانحياز الطبقي:
مشهد "المعجزة المزيفة" لـسيمبكوكس (الرجل الأعمى المُدّعي) الذي يكشفه غلوستر ، ومحاكمة بيتر (الصبي المتدرب) ضد سيده، يظهران كيف يُسيس النظام القضائي لخدمة الأقوياء.الدور السياسي للعامة:
يُصوَّر الشعب ليس كخلفية بل كفاعل سياسي. مشهد العرائض في المقدمة وتمرد كيد لاحقاً يظهران أن إهمال مطالب الشعب يؤدي لانفجار اجتماعي.النساء في قلب السلطة:
إليانور ومارغريت تتحديان الأدوار التقليدية. إليانور تحلم: "لو كنت رجلاً... لكنت سهلت طريقي على أعناقهم المقطوعة!" . مارغريت تتحول من ضحية في الزواج إلى قائدة عسكرية.
الخلفية التاريخية والمصادر الأدبية
اعتمد شكسبير على:
إدوارد هول ("اتحاد العائلتين النبيلتين"، 1548): قدم رواية تيودور الرسمية التي تُبرر حكمهم.
رافائيل هولينشيد ("حوليات إنجلترا"، 1587): قدم تفاصيل تمرد الفلاحين عام 1381 الذي استوحى منه مشاهد تمرد كيد.
ريتشارد جرافتون ("سرد شامل"، 1569): قدم قصة "المعجزة المزيفة" في سانت ألبانز.
ابتكر شكسبير تكثيفاً درامياً لأحداث امتدت 4 سنوات في التاريخ الحقيقي (1450-1455) لتظهر كسلسلة متصلة . كما أضاف شخصيات مثل "قاتلي غلوستر" لخلق توتر درامي.
تقييم نقدي وأهمية المسرحية
ابتكار درامي: أول تصوير لـ"حرب الوردتين" على المسرح الإنجليزي، وأول ظهور لـريتشارد الثالث (ابن يورك) الذي سيصبح شخصية محورية لاحقاً.
تعقيد سياسي: ترفض المسرحية الرؤية المانوية (خير مقابل شر). حتى "البطل" غلوستر يُظهر قصوراً سياسياً.
صدى معاصر: في تسعينيات القرن الـ16 (عصر كتابة المسرحية)، كانت إنجلترا تخشى غزو إسباني وصراعات خلافة بسبب عدم وجود وريث لإليزابيث الأولى، مما يجعل تحذير المسرحية من الفوضى سياسياً حاداً.
رؤية تشاؤمية: تقدم التاريخ ليس كسرد انتصارات بل كحلقة متكررة من العنف: "الدم يلوح في الأفق... سيغرق هذه الأرض".
سقوط البدايات
تنتهي المسرحية بهروب الملك، لكن انتصار يورك ليس نهاية المطاف. المشهد الأخير يضع الأساس لـ"هنري السادس، الجزء الثالث" حيث تتصاعد الحرب الأهلية. مسار الأحداث يؤكد رؤية شكسبير: الضعف في القيادة + الطموح الأعمى = فوضى لا محيد عنها. هذه المسرحية ليست مجرد "تاريخ" بل مرآة مظلمة للطبيعة البشرية في سعيها الدموي نحو السلطة، وهو ما يفسر استمرار صداها بعد أكثر من أربعة قرون.
"هنا في سانت ألبانز، حيث تلقى الصبيان درساً دامياً، ستبدأ حروب الورود التي ستغرق إنجلترا في الدم
0 تعليقات