لعل الموت ينسانا

لعل الموت ينسانا

 

 "لعل الموت ينسانا" لأنيس منصور

يعد كتاب "لعل الموت ينسانا" للكاتب والفيلسوف المصري أنيس منصور واحداً من أعمق وأشهر كتبه، حيث يغوص فيه في أغوار قضية وجودية شغلت الفلاسفة والمفكرين منذ فجر التاريخ: قضية الموت والحياة والوجود الإنساني.

 العنوان نفسه يحمل أمنيةً إنسانيةً طفوليةً وسؤالاً وجودياً مقلقاً: ماذا لو نسيانا الموت؟ هل سنعيش بسلام أم أن ذكراه هي ما يعطي للحياة قيمتها؟

ليس الكتاب قصة واحدة مترابطة، بل هو مجموعة من التأملات والمقالات الفلسفية والأدبية، ينتقل فيها أنيس منصور ببراعة بين الحكايات الشخصية، والاستشهادات من فلاسفة الغرب والشرق، والأدب العالمي، والنصوص الدينية، وأقوال الحكماء، ليقدم رؤية شاملة ومتعددة الأبعاد لموضوع الموت.

المحاور الرئيسية للكتاب:

1. الموت كحقيقة مفزعة ومحررة في آن واحد:
ينطلق أنيس منصور من حقيقة أن الخوف من الموت هو أحد أقوى الغرائز الإنسانية. فهو ذلك "الغريب" الذي ينتظرنا جميعاً، المجهول الذي لا يعرف أحد ما الذي يعقبه. 

يستعرض الكاتب كيف عالجت الحضارات والأديان والفلسفات هذه الفكرة، من خلال مفهوم البعث والخلود في الأديان، أو من خلال محاولة الفلاسفة (مثل سقراط وأفلاطون وشوبنهاور ونيتشه) التغلب على هذا الخوف بالمنطق أو بتقبل الموت كجزء طبيعي من الحياة.

لكن المفارقة التي يسلط عليها الضوء هي أن هذا الخوف نفسه، والوعي بحتمية الموت، هو ما يضفي على الحياة قيمتها الحقيقية.

 فالإدراك أن وقتنا محدود هو ما يدفعنا للإنجاز، والحب، والإبداع، وعدم إضاعة الوقت في تفاهات الأمور. الموت هو الذي يجعل الحياة ثمينة.

2. حوار مع العظماء الذين رحلوا:
يخصص أنيس منصور مساحات كبيرة للحديث عن موت العظماء والمشاهير، من الفنانين والكتاب والفلاسفة. 
يتساءل: كيف واجهوا فكرة موتهم؟ وكيف عاشوا حياتهم وهم يعلمون أن نهايتهم محتومة؟ يحلل من خلال سيرهم كيف أن إرثهم الفني والفكري هو شكل من أشكال الخلود، طريقة لتحدي الموت والبقاء في ذاكرة الأنسانية.

3. الموت والحب:
يربط الكاتب بين أعظم قوتين في الوجود: الحب والموت. فكثيراً ما يظهر الموت في القصص والأساطير كخاطف للحبيب، مما يضاعف من المأساة. لكن أنيس منصور يرى أن الحب هو أقوى سلاح ضد رهبة الموت.
 الحب بمعناه الواسع: حب الحياة، حب الشريك، حب الأسرة، حب المعرفة. الحب هو الذي يجعل الإنسان يشعر بأنه جزء من شيء أكبر، وأن له سبباً للاستيقاظ كل صباح، مما يخفف من وطأة الفكرة الكئيبة للنهاية.

4. الموت والضحك:
إحدى السمات المميزة لأسلوب أنيس منصور هي مزجه بين الجد والهزل. حتى في حديثه عن الموت، لا يخلو الكتاب من النكتة والفكاهة السوداء أحياناً. 
يسخر من غباء الإنسان وسذاجته في تعامله مع الموت، من خلال حكايات عن أشخاص حاولوا الهروب منه بطرق عبثية، أو كيف يتحول الموت إلى تجارة من قبل المشعوذين ومن يدعون معرفة الغيب.

5. التأمل في الحياة من خلال فكرة الموت:
الهدف الأساسي من الكتاب ليس الترويع أو إشاعة اليأس، بل العكس تماماً. أنيس منصور، من خلال حديثه الصريح والمباشر عن الموت، يدعو القارئ إلى إعادة تقييم حياته. هو دعوة إلى:

  • العيش بالكامل: عدم تأجيل الأحلام والسعادة.

  • التركيز على الجوهري: تجنب الصغائر والخلافات التافهة التي تهدر طاقة الحياة.

  • الوجود وليس الملكية: أن تكون لا أن تمتلك. فما نجمعه من أموال وممتلكات لا نأخذها معنا، لكن ما نفعله من أعمال طيبة وحب وإبداع هو ما يبقى.

  • الفضول والحب للمعرفة: كأنيس منصور القارئ النهم، يشير إلى أن التعلم والمعرفة هما رحلة لا تنتهي، تجعل الحياة مغامرة مثيرة تستحق أن تعاش.

الخاتمة: لماذا نقرأ هذا الكتاب؟

"لعل الموت ينسانا" ليس كتاباً سهلاً أو مريحاً، بل هو تحدٍ للقارئ ليواجه أكبر مخاوفه. أنيس منصور لا يقدم إجابات جاهزة أو وعوداً بالخلود، بل يقدم مرآةً نرى فيها حقيقتنا الهشة والجميلة في نفس الوقت.

الكتاب هو احتفاء بالحياة نفسها.

 إنه يذكرنا بأن نهاية الرحلة المعروفة لا يجب أن تُلغِي متعة السفر نفسها. 

إن قراءة هذا الكتاب هي تجربة تدفعك إلى التساؤل عن معنى وجودك، وتعيد شحنك بشغف العيش، وتجعلك تقدر كل لحظة من لحظات حياتك، ليس بسبب خوفك من الموت، بل بسبب حبك للحياة التي أدركت للتو أنها هبة ثمينة ومؤقتة.

بعبارة أخرى، ينجح أنيس منصور في تحويل موضوع الموت من كابوس مُرعب إلى حافز وجودي قوي للعيش بعمق وجرأة وحكمة

إرسال تعليق

0 تعليقات